طُرحت فكرة إقامة حكومة "لَمّ الشمل" بعد سلسلة الأخطاء الدستورية التي تميزت بها مرحلة إجراء الاستشارات النيابية الملزمة والإعداد للتكليف، وبعدها التخبط والعراقيل التي تعترض عملية التأليف وما طرأ عليها من مستجدات ومتغيرات أدَّت إلى هذا التعطّل والتعطيل. ولقد فُهِمَ من هذه الفكرة أنها بمثابة تَحَسُّبٍ لما قد تحمله مضاعفات وتداعيات التحولات الكبرى الجارية في المنطقة وعلى لبنان. وهو الذي يواجه في هذه الآونة أيضاً أكبر مجموعة من الأزمات في تاريخه المئوي، والتي تتشابك فيها وتتفاقم مشكلاته الوطنية والسياسية والاقتصادية والمالية والنقدية والأمنية في بحر متلاطم الأمواج، وفي خضم الفراغ والعجز على مستوى القيادات في إدارة الشؤون العامة للبلاد وللمواطنين.
لقد احتاجت تلك الأزمات التي كانت تصطرع في لبنان، وكان يجري التعتيم عليها، حَدَثاً كانتفاضة السابع عشر من شهر تشرين الأول لترتفع الأقنعة وتسقط حواجز الصمت والخوف وتتكشف عن تلك الشكوى العارمة والغضب واليأس الكبير، لدى فئات واسعة من اللبنانيين في جميع طوائفهم ومناطقهم في لبنان، من الفشل الكبير في إدارة شؤون البلاد الوطنية والسياسية والاقتصادية والمالية، والناتج في معظمه من عدم التبصر ومن سوء التقدير وسوء التدبير. وهو الذي ترافق مع انحسار كامل للثقة لدى اللبنانيين في الدولة والحكومات اللبنانية وفي المجتمع السياسي اللبناني، والذي أصبح يواكبه انحسار كبير في ثقة المجتمعَيْنِ العربي والدولي في الحكومات اللبنانية لجهة عدم القدرة وعدم الرغبة وعدم الإرادة لديها على معالجة المشكلات المتفاقمة في البلاد.
ما من شكّ أنّ الدعوة إلى "لمّ الشمل"، ومن حيث الشكل، أمر مرغوب فيه لإنقاذ لبنان. لكنّ هذا الأمر يوجب التنبه إلى النتائج الكارثية التي تمخضت عنها التجربة المريرة التي عاناها لبنان، ولا يزال، من تقاسم الأطراف والأحزاب السياسية للمقاعد والنفوذ والسلطة في الحكومات المتعاقبة، ولاسيما منذ العام 2011، والتي أدّت إلى شلل في أعمال الدولة وإلى فراغ متواتر، وإلى تعطيل ناجم عن الفيتوات المتبادلة. فلَمُّ الشملِ لا يتمثل في الالتقاء بمكانٍ واحد تغلُبُ عليه صفة حلبة الملاكمة أو حقل المتاريس، بل هو اتفاق حول مواضيع محددة يجري التوافق عليها والتزام مضمونها، وتنفيذ مندرجاتها حرفياً، وذلك حتى يتخطى لبنان الشكل الذي جربه بلا طائل إلى الجوهر الذي ما زال يجري تحاشي مقاربته. وبديلاً منه يجري الالتفاف على ذلك الجوهر أو يجري حياله استعمال كلام ملتبس تُصَبَّ في قالبه الممل البيانات الوزارية خالية الدسم.
فالمشكلات - كما أصبح واضحاً - باتت تتعدّى شكل الحكومة على أهميته. وبالتالي لم يعد من الممكن التصدي لتلك المآزق باللجوء إلى مجموعة من التوافقات العابرة التي لا يجري الوفاء بها ولا باحترام المبادئ والقواعد التي استندت إليها تلك التوافقات.
لقد أدّى التعاظم التدريجي لحدّة المشكلات في لبنان ولا سيما منها الاقتصادية والمالية، وتحديداً منذ العام 2011، إلى خروج العجز في الموازنة والخزينة وكذلك العجز في ميزان المدفوعات عن السيطرة، وإلى تراجع النمو الاقتصادي الذي أصبح سلبياً. ولقد انعكس ذلك كلّه في ما يشهده لبنان اليوم من المسّ بالاستقرار النقدي وبحرية التحويل وبما أصبح يثير القلق الشديد لدى اللبنانيين على سلامة ودائعهم ومدَّخراتهم لدى المصارف. وبالتالي قلقهم وخوفهم من وصول الدولة إلى حافة الإفلاس، ومن تردي الأحوال المعيشية للبنانيين، وارتفاع معدلات التضخم، وانهيار القطاع المصرفي القائم على الثقة.
إنّ التسويات الهشّة، ثبت أنها دائماً غير مأمونة ولا تستمر. وفي المحصلة، لا تؤدي إلى تحقيق الاستقرار بكل جوانبه. وذلك لأنّ الاستقرار الداخلي يقوم على قواعد قوة التوازن، وليس على ممارسات توازن القوى. بينما يقوم الاستقرار الخارجي للبنان على احترام القواعد التي ترتكز عليها مصالح لبنان واللبنانيين في العالم العربي وفي العالم، وكذلك في احترام أصول ووسائل تعزيزها.
هذه المرة ليست ككل المرات. فالأزمات الحالية تقترن بأزماتٍ خطيرةٍ أصبحت ماثلة أمام اللبنانيين: الأزمة الاقتصادية والمالية، وأزمة النظام المصرفي، والأزمة النقدية، وفوق ذلك كلّه أزمة الثقة المنهارة في الحكومات اللبنانية والمجتمع السياسي فيه، من اللبنانيين ومن المجتمعين العربي والدولي.
لقد صار الأمر يتطلب إنقاذاً وطنياً للنظام وللدولة من أجل استعادة الثقة المنهارة بداية بين المواطنين من جهة أولى ودولتهم وحكوماتهم والمجتمع السياسي اللبناني برمته من جهة أخرى. وبالتوازي مع ذلك ضرورة استعادة ثقة المجتمعين العربي والدولي بالدولة اللبنانية، وهي أمورٌ في غاية الصعوبة. ولذلك فإنّ التفاوُضَ من أجل التوافق هذه المرة ليس ككل المرات، ولا بد من أن يؤخذ في الاعتبار أنه لا بد من توفر شروطٍ واضحةٍ لهذا التوافق تستند إلى مبادئ احترام مصالح اللبنانيين في الحاضر والمستقبل. ولا بد من التأسيس على ضماناتٍ ثابتةٍ ومتنامية ليس من أجل مصلحة فريق دون غيره من اللبنانيين، بل من أجل الإنسان في لبنان، ومن أجل الوطن ومن أجل جميع اللبنانيين.
إنّ هذا يقتضي توافقاً رصيناً بين الأطراف السياسيين، ولا سيما منهم "حزب الله"، على موقف مرحلي يضع فاصلاً بين مقاومة اسرائيل وتحرير الارض من جهة، والانخراط في محور الممانعة أو أي محور آخر، لكي تستعيد الدولة دورها وسلطتها وقدرتها على التصدي للمآزق المتكاثرة، وكذلك تستعيد حرارة علاقاتها بأشقائها العرب والمجتمع الدولي، خصوصاً أن إدامة استعمال لبنان كمنصة سياسية ودعاوية لا يفيد محور الممانعة بشيء، أو على الأقل له من السلبيات على لبنان أكثر بكثير مما له من النفع لذلك المحور.
هذه المرة ينبغي بالفعل العمل على تجديد التعاقُد والتعاهُد على احترام الشرعيات الثلاث تعزيزاً للدولة اللبنانية ولمنعتها ولاحترامها لذاتها:
- الشرعية الوطنية اللبنانية: والمتمثلة باتفاق الطائف والدستور، وذلك بإعادة الاعتبار والاحترام إليهما، والتأكيد على احترام مبادئ السيادة والاستقلال، والتزام النظام الديموقراطي الحرّ، والتشديد على استقلال القضاء وترفعه ونزاهته، وكذلك في إعادة الاعتبار إلى الكفاءة والجدارة والانجاز في تحمل المسؤوليات العامة، وإخضاع المسؤولين للمساءلة والمحاسبة المؤسساتية. وأيضاً في التأكيد على محاربة الفساد والإفساد، وكذلك في التشديد على أهمية ترشيق الدولة وانتظام عملها وبسط سلطتها، وعلى احترام قواعد الحوكمة والحكم الرشيد.
- والشرعية العربية: لما فيه خدمة مصالح لبنان واللبنانيين الوطنية والقومية والاقتصادية.
- والشرعية الدولية: لحماية سيادة واستقلال الدولة اللبنانية وحدودها من اعتداءات ومطامع إسرائيل ومن تدخلات الآخرين - دولاً ومنظمات - في شؤون لبنان الداخلية، وذلك باحترام تطبيق القرارات الدولية عموماً، وذات الصلة منها على وجه التحديد.
ولكلٍ من هذه الشرعيات مقتضياتها الملحاحة في الداخل والخارج، ومن ذلك اعتماد السياسات والإجراءات المالية والاقتصادية والنقدية الشجاعة والصحيحة والمستقرة التي تستعيد ثقة اللبنانيين والمجتمعين العربي والدولي في الدولة والحكومات اللبنانية المحوكمة والنزيهة وصاحبة الكفاية، والقادرة على مواجهة الأزمات. ذلك أنّ الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم، الذين أصبح لبنان في أشد الحاجة إلى عونهم ومساعدتهم للحؤول دون انهياره الكامل والكارثي، يُقْبِلون على مساعدته ودعمه بمقدار ما يساعد اللبنانيون أنفسهم ودولتهم على تحقيق الإصلاح والنهوض المطلوب بشدة.
إنّ الإنقاذ، واستعادة ثقة المواطنين اللبنانيين والأشقاء العرب والمجتمع الدولي، فعلاً لا قولاً، يقتضي وجود حكومة لبنانية تكون لديها القدرة ولديها الإرادة والشجاعة والنزاهة، كما الخبرة العملية والوطنية للقيام بتلك المهمات البالغة الصعوبة. كما أنّ ذلك يتطلب أن تدعمها جميع القوى السياسية من غير هيمنة أو تأثير. وهذا مما يقدر الحكومة اللبنانية العتيدة على التصدي لتلك المآزق والمخاطر، والتي لن يصعب استنباط الحلول لها فيما إذا خلا الجو السياسي من الخطاب الطائفي المقيت أو التحريضي أو الإقصائي أو الاتهامي الذي يقصد منه حرف الانتباه وتشتيت الجهود عن القضايا الأساسية. فهذا الخطاب لم يعد له من الفاعليّة إلا إيغار الصدور وعمى البصائر وتبديد الجهود والطاقات دون طائل.
إنّ المطلوب الذي ينبغي الاستماتة في تحقيقه هو الإنقاذ الوطني بالشروط السالفة الذكر، بحيث تكون الحكومة العتيدة نتيجة التوافق العلني والالتزام الثابت لهذه القواعد والمبادئ، وليس مجرد القول إنها حكومة اختصاصيين مستقلّين يعتبر كافياً.
فلا حلَّ أقل من ذلك لاستعادة الثقة.
ولا يجوز تفويت الفرصة الوحيدة المتبقية من أجل الإنقاذ الوطني.
ليس من أجل هذه الطائفة أو تلك، أو من أجل هذا الحزب أو ذاك الشخص، ولا من أجل هذه الدولة أو تلك، بل من أجل إنقاذ الإنسان في لبنان، وإنقاذ دولته الوطنية، وإنقاذ مستقبل اللبنانيين الذي يجري تدميره أمام أعينهم وأعين شبابهم وشاباتهم.
الرئيس فؤاد السنيورة