حشدت الإدارة الأميركية أساطيلها في الخليج والبحر الأحمر، تتقدمها حاملتا الطائرات إيزنهاور ولينكولن، برفقة باخرة مستشفى ميداني، يتسع لألف سرير، تعبيرا عن مدى جدية واشنطن وجهوزيتها في خوض حربٍ على إيران، إذا اقتضى الأمر. محاصرة إيران بالعقوبات الاقتصادية والنفطية والضغط العسكري لإجبارها على تغيير سياستها، والعودة إلى داخل حدودها، كان الهدف الأول للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ دخوله البيت الأبيض. وهو أعلن، منذ اليوم الأول، أنه غير مهتم بإسقاط بشار الأسد، وإنما بوضع حد لنفوذ إيران في المنطقة، ودعمها الإرهاب! وأول قرار اتخذه هو إلغاء موافقة الولايات المتحدة على الاتفاق النووي مع إيران الذي وقّعته مع الدول الخمس، في يوليو/تموز 2015. وأعاد، في مايو/أيار 2018، فرض العقوبات التي راحت تشتد أكثر فأكثر إلى أن طاولت، قبل أيام، المنتوجات البتروكيميائية، فيما أعلن وزير خارجيته، مايك بومبيو، وضع اثني عشر بندا ــ شروطا للتفاوض مع السلطة الإيرانية، أهمها وقف جميع أنشطة تخصيب اليورانيوم وإنتاج البلوتونيوم، والسماح لخبراء الطاقة الذرية بدخول جميع المواقع، وإنهاء نشر الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، وإطلاق سراح المواطنين الأميركيين المحتجزين في إيران ومواطني الدول الحليفة، وإنهاء دعم "الجماعات الإرهابية" مثل حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وسحب القوات الإيرانية ومليشياتها من سورية. ويبدو أن حظوظ التفاوض إذا تقدمت ستأتي إشاراتها من البنود الأخيرة.
طبعا هي قائمة شروط تعجيزية وشبه مستحيلة، يحاول من خلالها ترامب، وعبر العقوبات والحصار، تقويض كل ما بناه الملالي في أربعين سنة، والتمهيد لإسقاط النظام، ولو أنه أعلن أن هدفه فقط تغيير سلوكه. وهو يصوب عمليا على الرأس، لضرب كل مفاعيل "الثورة الخمينية" وتعطيلها، وشل أذرعها الضاربة في المنطقة ودولها من اليمن إلى لبنان. وبالتالي، أيضا وبالتدحرج، إسقاط نظام الأسد في سورية. وواضح أنه ليس لإيران أن ترضخ لمثل هذه الشروط، أقله في المدى المنظور. وهي التي خاضت عام 1980 حرب السنوات الثماني في مواجهة صدام حسين، ونسجت، بحنكتها وطول نفسها وخبرتها في حياكة السجاد، أوسع شبكة نفوذ إقليمية، وأذرعا أخطبوطية، تتجاوز الشرق الأوسط. كما أحسنت استعمال القضية الفلسطينية وتوظيفها عربيا وإسلاميا. ولكن الحرب مع عراق "البعث" كانت الأولى والأخيرة، إذ لجأت إيران لاحقا إلى خوض حروب بالواسطة على أكثر من جبهة، عبر ذراعها الأقوى، حزب الله في لبنان الذي قاتل ضد إسرائيل، وقاتل دفاعا عن الأسد في سورية، وأرسل خبراءه إلى أكثر من بقعة في العالم. وفي فلسطين، تتكئ طهران على بعض المنظمات الفلسطينية، وفي العراق على "الحشد الشعبي"، وفي اليمن على الحوثيين. كما أن طهران تعرف كيف تهادن ومتى تتراجع خطواتٍ إلى الوراء، بدءا من حربها مع صدام، حين أعلن الخميني "تجرّع كأس السم"، باضطراره إلى الموافقة على وقف إطلاق النار. ناهيك عن الحنكة والصبر والنفس الطويل التي أبدتها طهران ومارستها خلال مفاوضاتها الطويلة والمضنية التي دامت سنواتٍ بشأن الملف النووي، والتي قدّمت خلالها تنازلاتٍ، وحققت، في الوقت عينه، مكاسب عنوانها الاتفاق النووي الذي سلّم لها عمليا بنفوذها في المنطقة، والذي يقوم الآن ترامب بتقويضه.
حكم الملالي اليوم في وضع صعب لا يحسدون عليه في داخل إيران مع اتساع النقمة، وتصاعد الاحتجاج من جرّاء العقوبات الخانقة، وفي الخارج وتحديدا في سورية. إذ تبدو طهران ربما نادمة اليوم على قبولها بالتدخل الروسي الذي خطف منها الساحة والدور الذي لم يكن بإمكانها، في مطلق الأحوال، أن تلعبه، فها هي موسكو تحاول الآن أن تفاوض وتقايض على وجود إيران العسكري في سورية، وتؤمّن الغطاء للغارات الإسرائيلية على مواقع إيرانية وصواريخ حزب الله في سورية، كما أنها أبدت استعدادها لاجتماع أمني ثلاثي بالاشتراك مع واشنطن في تل أبيب، فيما تشدد واشنطن الحصار النفطي أيضا على النظام السوري، وتفرض عقوباتٍ على ستة عشر من رجال الأعمال السوريين المقرّبين من النظام.
دفع هذا الحصار والضغط مثلث الأبعاد، على ما يبدو، طهران إلى التلويح بخيار العصا قبل الجزرة، فجاء التعرّض لناقلة نفط سعودية في ميناء الفجيرة الإماراتي ومهاجمة منشآت نفطية سعودية، في شهر مايو/ أيار الماضي، ولو على يد الحوثيين الذين قصفوا أيضا مطار أبها السعودي وناقلات نفط في الخليج العربي. محاولات جسّ نبض؟ سارعت الإدارة الأميركية إلى تحميل طهران المسؤولية، وإعلان جهوزية أساطيلها للرد في أي لحظة. تحرّك الوسطاء، مثل سلطنة عمان وفرنسا وألمانيا، فكان الرد الأميركي: لا نريد الحرب، ولكننا جاهزون لها. غير أن طهران، وعلى الرغم من إعلان رفضها أي شروط مسبقة، كانت تتحضر، في الوقت عينه، لإطلاق إشارات إيجابية باتجاه واشنطن، أولها إطلاق سراح اللبناني - الأميركي نزار زكا، المعتقل لديها منذ نحو أربع سنوات بتهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة، علما أنه سافر إلى إيران بدعوة رسمية من الحكومة للمشاركة في مؤتمر علمي. وقد حرصت طهران على إظهار دور الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في تسهيل عملية إطلاقه، مؤكدة أنها تمت بناء على طلبه! وهذا واحد من الشروط التي كان أعلنها وزير الخارجية الأميركي للتفاوض.
الإشارة الثانية والأهم هي تجاوب لبنان مع تحريك عملية التفاوض، لترسيم الحدود مع إسرائيل بوساطة أميركية، بعد أن كان رافضا أي خطوة من هذا النوع، فقد نجح المبعوث الأميركي، ديفيد ساترفيلد، في مساعيه التي يقوم بها منذ أشهر، متنقلا على خط الوساطة بين بيروت وتل أبيب. وهذه خطوة بالغة الدلالة، على اعتبار أن لبنان كان يرفض أن يتفاوض مع إسرائيل، ويرسم حدوده معها، وكل المفاوضات التي جرت في السابق كانت تتم عبر الأمم المتحدة، أو عبر وسطاء دوليين، سواء ترسيم الخط الأزرق بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي قامت به الأمم المتحدة عام 2000، أو المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية التي تمت أكثر من مرة عبر الصليب الأحمر الدولي ووسطاء ألمان. أما اليوم، فقد وافقت الحكومة اللبنانية على مفاوضاتٍ مباشرة لترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل، بواسطة أميركية، وإنْ في مقر الأمم المتحدة في الناقورة جنوب لبنان. الدلالة الثانية والأهم بالنسبة لأميركا وإسرائيل، موافقة حزب الله على عملية التفاوض مع إسرائيل، إذ بدون موافقته، لا يمكن للحكومة أن تتخذ قرارا كهذا، فهو مشارك في الحكومة، ويتمتع بحق النقض فيها. فيما يلاقيه وزير الخارجية، جبران باسيل، معلنا من لندن استعداد لبنان للتفاوض، وقبول "ترتيبات مناسبة". كما أن رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الذي أشرف على وضع ترتيبات عملية التفاوض مع المبعوث الأميركي لم يكن ليقوم بهذه المهمة بدون مباركة نصرالله وتفويض منه. ألا تعني الموافقة على التفاوض على ترسيم الحدود مع إسرائيل، اعترافاً بإسرائيل وبحدودها، على اعتبار أنها ليست دولة فلسطين، بل هي دولة الكيان المحتل لفلسطين؟ غير أن المفارقة تكمن في أن لبنان يستعد للتفاوض مع إسرائيل العدو لترسيم حدوده، في حين ترفض الدولة الجارة والعربية سورية ترسيم حدودها مع لبنان؟
العربي الجديد