المشهد تراجيكوميدي بامتياز! حكومة تجتمع ظهرا لتقر تعيينات في مناصب ادارية ومالية شاغرة منذ أشهر، وبعضها أكثر من سنة، بعد كباش طويل حول الحصص وتوزيعها السياسي والطائفي والزبائني. ومساء اليوم التالي يلتهب الشارع بمتظاهرين في مختلف المناطق ضد غلاء الاسعار وتردي الاوضاع المعيشية، وضد الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية (من 1500 الى 6000 ليرة للدولار الواحد) وضد مصرف لبنان. طبعا الحكومة لم تناقش هذه الامور لأن تقاسم الحصص أهم، ولكن الأطرف من ذلك ان شريحة كبرى من الذين نزلوا الى الشارع، وعبروا عن غضبهم بالتكسير والحرق والاعتداء على الاملاك العامة، وصبوا جام غضبهم وحقدهم على وسط بيروت، ينتمون الى الاحزاب التي تمسك بالحكومة وبالسلطة، وتحديدا الثنائي-الشيعي "حزب الله" وحركة أمل. يعني انهم نزلوا يتظاهرون ضد انفسهم؟!
وقد بلغت درجة الوقاحة واللامسؤولية انه تم تقديم موعد جلسة مجلس الوزراء اربع وعشرين ساعة لكي يتمكن احد الشركاء في الحكومة من ان يفرض تعيين مديرا عاما قبل ان يبلغ سنا اذا تجاوزه لا يعد ممكنا تعيينه في ذلك المنصب. والمفارقة في الأمر ان هذا الرجل تم تعيينه من خارج الملاك في موقع مدير عام لوزارة الاقتصاد فيما هو مختص بالعلاج الفيزيائي؟! هذا يحصل فقط في لبنان!
وقبل ايام فقط، اي في 6 حزيران الماضي، كانت مجموعات من "ثورة اوكتوبر" قد استعادت زخمها بالعودة الى التظاهر في معظم المناطق رافعة شعارات تطالب برحيل حكومة حسان دياب وتشكيل حكومة مستقلة والدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة، فيما رفعت مجموعات اخرى شعار المطالبة بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وفي مقدمها القرار 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن في ايلول 2004، والذي ينص على نزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، ومن ضمنها بطبيعة الحال "حزب الله". فما كان من الذين تظاهروا قبل أيام ضد الغلاء وضد ارتفاع الدولار أي مناصرو "حزب الله" وحركة أمل ان شنوا هجمات مضادة في اكثر من موقع على وقع هتاف مفرط في الشحن الطائفي والمذهبي "شيعة شيعة شيعة"، وكاد البلد ان ينزلق مجددا في اتون الحرب الأهلية عندما توجهت هذه الجحافل، وبعضها مسلحا، على دراجات نارية، بشعاراتها المستفزة، نحو ما كان يعرف بخطوط التماس خلال سنوات الحرب (1975 - 1990) اي في مواجهة منطقة عين الرمانة المسيحية المقابلة لمنطقة الشياح الشيعية، وأخرى توجهت الى منطقة طريق الجديدة السنية، وثالثة من حي شيعي بامتياز نزولا نحو الثوار المتواجدين على جسر الرينغ... فحصلت استنفارات مضادة، وكأن المراد كان تحريك الذاكرة باعادة احياء تلك الخطوط القديمة والبغيضة!
كيف يمكن لشباب ان يتظاهروا من أجل لقمة العيش، ويجندوا في الوقت عينه وقودا للشحن الطائفي والمذهبي ضد من كانوا يتظاهرون الى جانبهم من اجل لقمة العيش؟ هذا ايضا يحصل قي لبنان! ان حقيقة ما يجري هو ان فريقا يمسك امساكا محكما بالسلطة، وهذا الفريق هو "حزب الله" الذي يحاول أخذ البلد رهينة او درع واق لمصالح المحور الايراني-السوري "الممانع" الذي ينتمي اليه. حكومة طيعة في يده استعملها ووظفها بما فيه الكفاية، لدرجة انها أصبحت ضعيفة وتحولت الى عبء عليه برغم كل البطولات الدونكيشوتية التي يدعيها رئيسها، المسكون بهاجس المؤامرة، ناهيك عن التخريفات التي يتفوه بها.
مأزق "حزب الله" الآن هو انه امام استحقاق دخول "قانون قيصر" الاميركي، الذي سيفرض عقوبات قاسية ويشدد الخناق على النظام السوري، حيز التطبيق في 17 من الشهر الجاري اي بعد يومين. وهذا القانون سيضع لبنان تحت المجهر، وسيضيق على حركة التهريب عبر الحدود، وسيزيد الضغط بالتأكيد على "حزب الله"، لانه يقوم منذ سنوات بدور المسعف لحليفه بشار الأسد من خلال القيام بمختلف انواع التهريب عبر الحدود لكل ما يحتاجه من نفط ومحروقات وطحين ومواد غذائية أساسية، والأهم تزويده بمئات ملايين الدولارات التي راح يسحبها من الاسواق اللبنانية، ما ساهم في تعميق الأزمة المالية والنقدية. وايضا في اسعاف نفسه من عمليات التهريب واللعب بالدولار وتكديسه لأن ايران لم تعد قادرة على تزويده.
لذلك، أمام "حزب الله" خيارين احلاهما مر. إما تغيير الحكومة وهذه مسألة ليست متيسرة على الأرجح لأن خيار عودة سعد الحريري التي يتمناها الحزب دونها عقبات، وهو في مطلق الأحوال لم يعد قادرا على تأمين التغطية الخارجية المطلوبة. أما الخيار الثاني فهو باقالة حاكم مصرف لبنان الذي شيطنه "حزب الله" وحوله الى كبش محرقة و"فشة خلق" لجمهوره. ولكن هذا الخيار ايضا غير متاح لأن حسن نصرالله يعرف ان اقالة رياض سلامه تشكل تحديا مباشرا لواشنطن هو بغنى عنه اليوم. لذلك، استعاض عنها بمحاولة ابتزازه عبر تحميله مسؤولية الأزمة المالية وانهيار الليرة لاجباره على تلبية مطلب ضخ ما تيسر من مئات ملايين الدولارات لتزويد النظام السوري قبل دخول "قانون قيصر" حيز التنفيذ.
ان لبنان بات في وضع لا يحسد عليه، فهو أصبح مكشوفا بالكامل امام المجتمع الدولي، والثقة به مفقودة، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي ترواح مكانها، والدول الصديقة والمانحة لا تبدو مستعدة لتقديم مزيد من المساعدات لانها تعتبر ان لبنان بات في قبضة "حزب الله"!