القرية الكونيّة التي لا بدّ للبنان من أن يكون جزءاً لا يتجزّأ منها، باتت تفصل بينها وبين هذا البلد الصغير أميالٌ من مسافات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، في مرحلة يبسط فيها "حزب الله" سيطرته على هذه البقعة بعدما ساقها إلى محورٍ شبه معزول ينوء بالعقوبات. وينظر "الحزب" الى صندوق النقد الدوليّ (IMF) على أنّه مجلس أمن ماليّ آتٍ بعد نجاح لبنان في تدويل القضاء وتحقيق مطلب المحكمة الدوليّة، وبعد تدويل الصراع اللبنانيّ - الاسرائيليّ وصوغ بنود القرار 1701. ويُترجم "الحزب" دخول صندوق النقد إلى ادارة الشأن المالي والاقتصاديّ في لبنان على أّنه إطباق على حريّة حركته الماليّة - الاقتصاديّة، استناداً إلى مقاربة أوساط سياسية معارضة له، ترى أنّه يعيش على هامش الدورة الاقتصادية اللبنانية، ويخشى أن يأخذ صندوق النقد قرارات قد تنعكس سلباً على حريّة حركته، ما جعله يرتضي الاحتكام الى الاستشارة التقنية بعد جهدٍ جهيد، رغم رفضه حتى اللحظة إعطاء الضوء الأخضر للبرنامج التنفيذيّ لصندوق النقد، الذي من شأنه أن يكفل التأكيد على كيانيّة لبنان كجزءٍ من النظام الماليّ والاقتصاديّ والمصرفيّ العالميّ، والذي لا يمكن أن يكون بقعة معزولة عن العالم.
واذا كانت زيارة وفد صندوق النقد تتّخذ صفة استشاريّة ليس من شأنها تقديم أيّ برنامج انقاذي، يبقى المطلوب الانتقال الى مرحلة أخرى عنوانها التعاون مع "الصندوق" من خلال برنامجه التنفيذيّ، خصوصاً اذا كان لا بدّ من اللجوء الى جدولة الدين الخارجيّ وتعاظم الحاجة الى الصندوق القادر على ضمان حقوق الدائنين.
ترغب الحكومات المتعثّرة في ادارة الشأنين المالي والاقتصادي في الاحتكام الى صندوق النقد، استناداً الى تاريخ التجارب العالميّة، في كونه يتولّى معالجة الملفات الاقتصادية المتعثّرة وضمان عدم وصول البلاد الى حلقة أشدّ سوءاً. هذا المفترق كان لا بدّ للحكومة اللبنانية الحاليّة من أن تعتمده ليس من منطلق استشاريّ فحسب، بل من وجهة تنفيذيّة كان لها أن قدّمت أدوات الجراحة الاقتصاديّة إلى فريق صندوق النقد، ما كان يكفل للحكومة النأي بنفسها عن مواجع الجراحة والاجراءات المتّخذة، طالما أنّها أوكلت المهمّة الجراحيّة الى فريق خارجيّ. ويتراءى للمواكبين أنّ تسليم معدّات الجراحة الى فريق صندوق النقد، إجراءٌ لا يمكن الحكومة اتّخاذه من دون الحصول على توقيع "حزب الله" ونيل موافقته غير المؤمّنة حتى الساعة كونه يكتفي بالموافقة على "خطوة استشاريّة".
ماذا عن توقيع "الحزب" على قبول الاستشارة؟ في المعلومات أن صاحب المبادرة والفكرة في طلب المساعدة التقنيّة من صندوق النقد هو "حزب الله" نفسه. حصل ذلك في الاجتماع التنسيقيّ الأخير الذي عقدته قيادتا "الحزب" وحركة "أمل" لمقاربة الملف الاقتصاديّ، استناداً الى ما يروي مصدر مواكب، اذ تشاور مندوب "الحزب" في الاجتماع مع "أمل" وتبنّيّا الفكرة التي ما لبثت أن عُرضت على رئيس الجمهورية الذي بدوره وافق عليها وعرضها على رئاسة الحكومة. ويحكى في المجالس المقرّبة من "الحزب" أنّه يرحّب بأي مساعدة من شأنها أن تقدّم الى لبنان، لكنّه يخشى من خطوط حمر ثلاثة: أولها وضع المواطنين. وثانيها التدخّل السياسيّ في القرار اللبنانيّ. ويكمن الخطّ الأحمر الثالث في علاقات لبنان الاقتصادية مع الخارج (ايران). وتأتي موافقة "الحزب" على الاحتكام الى خيار المساعدة الفنية، في كونها خطوة غير مشروطة من شأنها تقديم النصح، فيما يُعتبر تولّي صندوق النقد تنفيذ الاصلاحات وحيازته صلاحيّات في هذا الشأن، من احد خطوطه الحمراء.
هل يتراجع "الحزب" عن رفضه تسليم الجراحة الانقاذيّة الى صندوق النقد في المرحلة المقبلة بعدما تراجع أمام خطوة طلب المشورة التقنيّة؟ لا يستبعد مراقبون أن يعمد "الحزب" الى محو خطّه الأحمر، باعتبار أنّ طلب مشورة صندوق النقد من شأنها أن تُقرأ على أنّها تمهيدٌ لمزيد من التنازلات. وفي رؤية وزير سابق معارض لـ"الحزب" ايديولوجياً، أنّ وزراء الأخير يتعاملون ببراغماتيّة مع الملفات الاقتصادية، واذا كان ثمة إجراءات جدية من شأنها أن تعود بنتيجة، فلا بدّ له من أن يوافق في ظلّ الضغط والضرر الذي يستشعره على مناصريه قبل معارضيه، خصوصاً أنّ التمويل الخارجيّ لا يمكن أن يتحقّق من دون دعم صندوق النقد.
التساؤل الأهمّ: هل توافق الدول الفاعلة على البرنامج اذا ما أعطى "الحزب" ضوءاً أخضر في هذا الشأن؟ لم يسبق لصندوق النقد أن ركز على طلب تفعيل إصلاحات أمنية، وهو يتعامل مع الملفات انطلاقا من إسدائه نصائح تقنية بحت. ولا يغيب عن المشهد أن الإصلاحات الاقتصادية من شأنها أن تفرض على "حزب الله" تبديل مجرى تعامله مع الملف الاقتصاديّ من المعابر غير الشرعية الى المرفأ والمطار. ولكن، لا بد من عدم إغفال الشق السياسي المتعلق بمجلس إدارة صندوق النقد والشروط السياسية التي من شأنها أن تتيح دعم البرنامج الاقتصادي.
ويقول خبير سبق له أن تعامل مع صندوق النقد في قوننة جدولة الديون، إنه اذا ما قرر لبنان تفعيل البرنامج الإصلاحي ونال قبول صندوق النقد، إلا أن السير في البرنامج من عدمه، مرتبط بمجموعة شروط لا يمكن اغفال ضرورة سير لبنان بها، تفرضها دول فاعلة للموافقة على دعم البرنامج وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية. وبعبارة أكثر وضوحًا، يحتاج السير في البرنامج إلى موافقة واشنطن، بقدر ما يتطلب دعم بيروت. وتشترط المساعدات موافقة بيئة حاضنة غربية وعربية، ليست إيجابية في نظرتها الى الواقع اللبناني الراهن حتى الساعة.
الكاتب - مجد بو مجاهد - النهار