في كلمته في ختام "يوم التأمل والصلاة من أجل لبنان" أستحضر البابا فرنسيس قولَ البابا يوحنا بولس الثاني عن لبنان أنّه "أكثر من وطن إنّه رسالة"، إذ قال البابا الحالي إنّ "لبنان هو رسالة عالمية، رسالة سلام وأخوّة ترتفع من الشرق الأوسط".
لقد أراد البابا التأكيد مجدّداً على أهمّية لبنان من خلال إعطائه دوراً ووظيفة عالميين. هدف البابا من ذلك واضحٌ جدّا إذ أراد القول لـ"المجتمع الدولي" إنّ لبنان مسؤولية في عنقه، فهو ليس وطناً لذاته وحسب بل هو وطنٌ للعالم. وليس أدلّ على غاية البابا تلك من توجّهه إلى "أعَضاءَ المُجْتَمَعِ الدَوْليّ" بالقول: "بِجُهْدٍ مُشْتَرَك، وَفِّرُوا لِلْبَلَدِ الظُروفَ المُناسِبَة حتَى لا يَغْرَق، بَلْ يَنْطَلِقُ في حَياةٍ جَدِيدة. سَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لِلجَميع". أي أنّه يدعو هؤلاء إلى بذل جهد مشترك لإنقاذ لبنان، لأنّ إنقاذه ليس خيراً له وحده بل للعالم أجمع.
هدفٌ آخر سعى إليه البابا من خلال توكيده على المنظور الفاتيكاني التاريخي للبنان "الذي يَشْهَدُ علَى خِبْرَةٍ فَريدَةٍ مِنَ العَيْشِ السِّلْمِي مَعًا". فهو تعمّد إظهار إلى أي حدّ ينكرُ المسؤولون السياسيون اللبنانيون مسؤولياتهم السياسية والأخلاقية لا تجاه اللبنانيين وحسب بل تجاه البشرية. إذ هم مؤتمنون على وطن هو "رسالة عالمية"، لكنّهم ليسوا على قدر هذه الأمانة، إذ "يسعون بِدونِ رادِعِ ضَمير وَراءَ مَصالِحِهِم الخاصَّة".
والحال فإنّ أي مسؤول سياسي في لبنان، سواءَ كان رئيساً أم نائباً أم وزيراً - كلّ بحسب درجة مسؤوليته - ينبغي أن يشعرعند استماعه إلى كلمة البابا لا بالخجل وحسب بل بالخوف أيضاً، لأنّه سيحاسب عاجلاً أم آجلاً على إنكاره لمسؤوليته.
فكلام البابا ينطوي على دعوة ضِمنية إلى التغيير السياسي في لبنان من خلال تغيير الذهنية السياسية السائدة فيه. فهو توجّه بعبارات قاسية جدّا إلى السلطة السياسية، وقال: "كُلُّ مَنْ فيِ يَدِهِ السُّلْطَة، فليَضَعْ نَفْسَهُ نِهائِيًا وَبِشَكْلٍ قاطِعٍ في خِدْمَةِ السَّلام، لا في خِدْمَةِ مَصالِحِهِ الخاصَة. كَفَى أنْ يَبْحَثَ عَدَدٌ قَليلٌ مِنَ الناسِ عَنْ مَنْفَعَةٍ أنانِيَّة علَى حِسابِ الكَثيرين! كَفَى أنْ تُسَيْطِرَ أَنْصافُ الحَقائِقِ علَى آمالِ الناس!".
ثمّ دعا إلى التنبّه والإصغاء إلى الشَّبابُ الذين "هُم مَصابِيحُ تُضيءُ في هَذِهِ السَّاعَة المُظْلِمَة لأنَّ وِلادَةَ البَلَدِ تَكُونُ علَى يَدِهِم". وقال: "نَحْنُ جَمِيعًا، قَبْلَ أنْ نَتَخِذَ قَراراتٍ مُهِمَة، لِنَنْظُرْ إلى آمالِ وأحلامِ الشَّباب". كما دعا إلى وجوب أنْ "تحْظَى النساء اللبنانيات بالاحْتِرامِ والتَقْديرِ والمُشارَكَةِ في صُنْعِ القَرارِ". وهو بذلك أعطى إشارة واضحة إلى دعم الشباب اللبناني الذي يعبّر منذ 17 تشرين 2019، وبأشكال شتّى، عن رفضه للطبقة السياسيّة، إذ يحملّها مسؤولية الأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي تعصف بلبنان.
وعليه ربط "الحبر الأعظم" بين أمرين بالغي الأهمية بالنسبة للوضع اللبناني الراهن. إذ كثّف المسؤولية السياسية والأخلاقية للمسؤولين اللبنانيين وأعطى حجّة إضافية للتشكيك الدولي المطرّد فيهم، من خلال جعل مسؤوليتهم عالمية لا وطنية وحسب. ووجّه في المقابل رسالة دعم إلى الشباب "الذين يُضِئْ علَى وُجُوهِهِم أَمَلُ المُسْتَقْبَل".
بذلك رسَمَ البابا الملمَح الأساسي لمستقبل السياسة في لبنان، باعتباره مستقبلاً تتنازعه ذهنيتان، الأولى تحرّكها "المنفعة الأنانية" والتطلّع إلى "أحقاد الماضي والتحسّر" والثانية تتطلّع إلى المستقبل وتطمح إلى ولادة جديدة للبنان.
والأكيد أنّ البابا فرنسيس يدرك تمام الإدراك أن لبنان لكي يكون وطناً ذا رسالة عالمية يفترض به أن يكون وطناً بالدرجة بالأولى. أي أن تكون دولته سيّدة على قرارها وقادرة على إدارة مصالح المجتمع وتأمينها على أسس العدل والمساواة والسلام. وهتان وظيفتان للدولة إذا انتفيتا انتفت الدولة نفسها.
ولذلك قال البابا: "كَفَى اسْتِخْدامُ لبنانَ والشَّرْقِ الأوْسَط لِمَصالِحَ وَمَكاسِبَ خارجِيَّة"، ودعا إلى "وجوب إعْطاء اللبنانِيِّينَ الفُرْصَةَ لِيَكُونوا بُناةَ مُسْتَقْبَلٍ أفْضَل علَى أرْضِهِم وَبِدونِ تَدَخُّلاتٍ لا تَجُوز".
أي أنّ البابا أضاف شرطاً ثانياً لقدرة اللبنانيين على بناء مستقبل أفضل؛ فهو إذ دعا إلى إسقاط السعي وراء المصالح الخاصة في الحكم، أكّد أيضاً على رفض استخدام لبنان لمصالح ومكاسب خارجية.
بذلك حدّد البابا ملمحَي الأزمة اللبنانية الراهنة، بوصفها ازمة يجتمع فيها عاملان: سوء الحوكمة في ظلّ تحكّم ذهنية المحاصصة بأداء السلطة السياسية بدلاً من إيجادها حلولاً للأزمة (كما دعا البابا)، وفقدان سيادة الدولة في ظلّ وجود حزب مسلّح يجاهر علناً بدعم دولة إقليمية ذات مصالح استراتيجية له.
بالتالي فإنّ العمل على التغيير السياسي في لبنان يفترض أن يأخذ بهذين الملمحين معاً، لا أن يأخذ بواحد دون الآخر. وهذه مهمّة صعبة في ظلّ الظرف المحلّي والدولي حيث المنطقة على عتبة تحوّلات كبرى، لكنّها ليست مستحيلة، خصوصاً أنّه ليس أمام اللبنانيين الذين يريدون العيش بسلام ووفق شروط العدل والمساواة، سوى خيار التصدّي، وبالتراكم، لوجهي الأزمة هذين.
وهذا التصدّي يُفترض أن يستفيد من عامل الزخم الديبلوماسي والسياسي القوّي الذي أعطاه الفاتيكان لـ"القضية اللبنانية". لكن هذه الاستفادة تتطلّب مواكبة سياسيّة داخلية تقوم على أمرين مترابطين: الأول بلورة أسس القضية اللبنانية من خلال الربط بين ملمَحي الأزمة المذكورين، والثاني العمل على بناء حقل سياسي يحمل هذه القضية وتكون مرجعيته الدستور اللبناني الذي يضمن تطبيقه سيادة الدولة وتطوير النظام اللبناني إلى حدود فصل الدين عن السياسة.
ولعلّ دعوة البابا إلى استلهام "مِثالُ الذينَ عَرِفُوا أنْ يَبْنُوا أَسُسًا مُشْتَرَكَة، لأَنَّهُم رأَوا، في التَنَّوِعِ لا عَقَبات، بَلْ فُرَصًا لِلبِناء"، هي دعوة للعودة إلى الجذور الديموقراطية للجمهورية اللبنانية، لأنّ التنوّع الطائفي والثقافي في لبنان يفقد معناه الحضاري لمجرّد سقوط الديموقراطية فيه.
إنّ اهتمام البابا بلبنان كبيرٌ، وإن آمال اللبنانيين بالتغيير يفترض أن تكون كبيرة أيضاً بالرغم من اشتداد الأزمة... "فوَراءَ سِتارِ الليْل الأَسْوَد هُنَاكَ فَجْرٌ يَنْتَظِرُنا".