حاضرٌ باستمرار، في كل الأوقات وفي كل الأمكنة سياسيا، وفي إطلاق المبادرات وفي صناعة القرار. شكل جبران باسيل مفاجأة الظاهرة العونية التي بنت وجودها على شعارات رفض وجود (احتلال؟) جيش النظام السوري لبنان نحو ثلاثين سنة. إنه اليوم الحاكم بأمر رئيس الجمهورية ميشال عون، متعطش للسلطة و"مروّض" السياسيين المخضرمين، الحلفاء قبل الأخصام، الأكثر خبرة والأصلب عودا.
قبل اثنتي عشرة سنة، كان باسيل، المولود في 21 يونيو/ حزيران 1970، مجرّد ناشط عوني يتقدّم على رفاقه، كونه صاهر عام 1999 الجنرال ميشال عون الذي كان يومها في منفاه الباريسي، بعد أن طرد عام 1990 من القصر الجمهوري. وهنا كل سر باسيل، إذ إن زواجه من شانتال عون كان بمثابة ورقة يانصيب العمر. قبل ذلك التاريخ، حاول ابن مدينة البترون الشمالية مرتين أن يُنتخب عضوا في مجلس بلدية المدينة، ولم يوفق، وكانت آخر محاولة في عام 2004، أي قبل سنة من عودة عون إلى لبنان. وفي عام 2005 وعلى إثر انتفاضة 14 مارس/ آذار التي انفجرت عقب اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، والتي شارك فيها التيار العوني، ترشّح باسيل للانتخابات البرلمانية عن دائرة البترون، وإنما ضد قوى 14 آذار، وحليفا لقوى 8 آذار "الممانعة" ولم يوفق. في تلك الفترة، شهد لبنان موجة من الاغتيالات والتفجيرات، تبعها احتلال قوى 8 آذار وسط بيروت دام سنة ونصف السنة، ثم فرض أمر واقع بالسلاح على الأرض، أدى إلى عقد مؤتمر الدوحة الذي تمكّنت فيه قوى 8 آذار من فرض شروطها. عندها شارك العونيون في مايو/ أيار 2008 أول مرة في الحكومة، ودخلها باسيل من الباب الواسع، وهو المهندس، وزيرا للاتصالات. وكان ذلك أول مؤشر عن الذي يريده تيار عون من السلطة، وكيف سيمارسها باسيل في السنوات اللاحقة.
بعد سنة، حلت الانتخابات النيابية مجدّدا، وترشح باسيل مرة أخرى من موقعه وزيرا في السلطة، لكنه خسر أيضا أمام لائحة "14 آذار". وشاءت الأقدار أن يطلق عون، خلال الحملة الانتخابية تلك، في مايو/ أيار 2009، مقولة إن "من يسقط في الانتخابات لا يحق له أن يصبح وزيرا"... فأسقط في يديه! فكيف للجنرال أن يقبل بخروج صهره المدلل من الحكومة، والذي بدأ يتلمس طريق السلطة، فهو لم يتردّد في إشهار محبته باسيل وانحيازه له وتفضيله على أصهاره الآخرين، هو الذي لم يرزق بابن ذكر، فقام بتعطيل مهمة سعد الحريري الذي كان يشكل الحكومة أول مرة ستة أشهر، لإصراره على توزير باسيل. ورد يومها على منتقديه قائلا: "فلتتعطل سنة كرمى عيون جبران". وعاد باسيل إلى الحكومة، وزيرا للطاقة، فراح الشاب الطموح يتقلد المناصب تلو الأخرى ويتمرس في السلطة، وفي أهم الوزارات الدسمة إن كان في عائداتها المالية التي تفتح الباب واسعا أمام المشاريع والصفقات، أم في كثافة كادرها الوظيفي الذي يفتح المجال أمام توظيف الأنصار والمحاسيب.
وراح نجم باسيل يلمع في الوسط السياسي، ويكثر في الوقت نفسه منتقدوه الذين لم يفعل هو في المقابل ما من شأنه أن يجعله محببا أو خفيف الظل لديهم. كان همّه أن يوظف رأسمال عون السياسي، والرابطة العائلية، لصالحه، وأظهر براعة في اقتناص الفرص وكسب الوقت، غير مكترث لأي اعتبار أو حساب أو تحفظ. ولم يتأخر في تأكيد أنه يريد أن يتحرك على كل الساحات، وفي كل الاتجاهات. طموحه أن يصبح الرقم الأول في التيار العوني، ولماذا لا على الصعيد اللبناني، فانبرى، في نهاية 2010، بعد سنة من تشكيل حكومة الحريري، وكان وزيرا فيها، إلى إعلان إسقاطها من مقر إقامة عون بالذات، تلبية لرغبة حزب الله، فيما كان رئيس الحكومة يدخل البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
هو ماكيافيللي. يعرف ماذا يريد، ولا يتوانى عن استعمال أي وسيلة واتخاذ أي خطوة أو إعلان أي موقف يوصله إلى غرضه. ولكنه يعرف أيضا "من أين تؤكل الكتف"، يعرف أن يلعب على الوتر الحساس لدى الجمهور، ويعرف كيف يتقن العزف على غرائزه. سلاحه الأمضى هو "حقوق المسيحيين"! الحقوق التي يعتبر، هو وكثيرون مثله، أنها ناقصة، وأن المسيحيين يعيشون حالة إحباط وتهميش نتيجة الحرب الأهلية (1975 – 1990)، والتي خسروا بموجبها هيمنتهم على السلطة، والامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، بعد أن وضع "اتفاق الطائف" (أكتوبر/ تشرين الأول 1989) حدا للحرب، وأقر إصلاحات على النظام، وأرسى توازنا في السلطة بين الطوائف، إلا أن وصاية النظام السوري جعلت تطبيق "الطائف" يقوم على معادلة غالب ومغلوب، وعلى تهميش المعارضين المسيحيين لصيغة السلطة وتركيبتها. وحول عون معارضته "اتفاق الطائف" إلى عنوان لحربه ضد الجيش السوري والسياسيين المسيحيين (القوات اللبنانية) والمسلمين الذين أيدوه. وأصبح "الغبن اللاحق بالمسيحيين" شعار التجييش، مع دخول التيار العوني الى السلطة، ففي كل مرة يريد باسيل فرض موقف أو خطوة، أو تمريرهما، يتهم المسلمين بالانتقاص من حقوق المسيحيين، وبفرض نوابهم عليهم. إنه نموذج السياسي الشعبوي والديماغوجي بامتياز.
وعند خروج قوى 14 آذار من السلطة، بعد انقلاب عون وحزب الله، شكل نجيب ميقاتي حكومة في منتصف 2011، استأثر فيها العونيون لأول مرة بكل المقاعد المسيحية، ودخل باسيل وزيرا على رأس مجموعة من عشرة وزراء. وشكل هذا الدخول المدوّي قفزة نوعية له، فراح يرفع من مستوى تحدّيه الزعماء السياسيين المخضرمين، ويخوض، في الوقت عينه، معركة السيطرة على التيار التي لم تكن مفروشة بالورود، ما اضطر الجنرال إلى التدخل، وإجبار المنافسين على الانسحاب، وإعلانه تنصيب باسيل بالتزكية. بعد تكريسه قائدا للتيار، ووزيرا ثابتا في كل الحكومات، رفع الرجل التحدّي، معلنا حربه على رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، المخضرم نبيه بري. وباسم "حقوق المسيحيين" يتهمه باسيل بال"بلطجي"، معرّضا السلم الأهلي للخطر، بسبب انتفاض أنصار بري. ولكنه في الوقت عينه يجيّش المسيحيين، ويشد عصبهم حول السياسي الشاب الذي يتجرّأ على الزعيم الشيعي! ويفرض قانونا انتخابيا جديدا، يؤمن له أخيرا مقعدا في البرلمان (مايو/ أيار 2018) وهكذا دواليك.. وهو اليوم، بفعل التسوية الرئاسية التي حملت عون إلى الرئاسة، يمسك بزمام الأمور، جاعلا من سعد الحريري أسيره في الحكومة التي يسيطر على ثلث زائداً واحداً من أعضائها الثلاثين، ما يمكنه من إسقاطها ساعة يشاء.
باسم "حقوق المسيحيين"، يمارس باسيل جشعا للسلطة في الإدارات والمؤسسات، وهو يعرف كيف يناور أيضا على حليفه حزب الله، وكيف يحرجه في أكثر من مناسبة. يستغل حاجة الحزب لدعم أهم تيار مسيحي لبناني، تحصينا لوضعه الداخلي في هذا الظرف الإقليمي الدقيق، فيطلق تصريحات من نوع إنه "لا خلاف أيديولوجي مع إسرائيل" و"لإسرائيل الحق في الأمن" وغير ذلك.. ويزايد عليه في المقابل بدفاعه عن النظام السوري، وضرورة عودته إلى جامعة الدول العربية، ثم يبعث رسائل تطمين من تحت الطاولة إلى الإدارة الأميركية. وقبلها يتوجه إلى موسكو برفقة رئيس الجمهورية، وهناك يطلبان من الرئيس بوتين حماية مسيحيي الشرق و.. دعم باسيل لرئاسة الجمهورية! هذا هو بيت القصيد، وهذا هو هدف زعيم التيار العوني اليوم.