تدور الحياة السياسة اللبنانية في فلك أربعة مفردات هي:
- الميثاقية.
- الطائفية.
- المذهبية.
- الزعم بوجود "دولة".
ما يحصل اليوم يمتد إلى زمن غابر. آنذاك قامت الجمهورية المُدعاة حالياً في أراضٍ مقتطعة من هنا وهناك لتلتحق أو لتُلحَق بجبل هو واسطة العقد بينها. وما تزال الدولة والجمهورية على قيامهما ذاك منذ نيّف وقرن، إضافة إلى مفردات.
هو فلك واسع تلمع فيه جماعات أهلية تعضدها ولاءات خارجية. تتلألأ ثمّ لا تلبث أن تنطفئ، من دون أن تشكّل المفردات الآنفة الذكر بوصلةً ينحو الأهالي نحو اتجاه تشير إليه، وذلك على اختلاف مللهم ودوافعهم ولبنانيّتهم، وعلى اختلاف انزياحات البوصلة شرقاً وغرباً.
رافقت التحاقَ الأراضي تلك وجماعاتها على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم بعضها ببعض، مفردةٌ خامسة لم يفارق طيفها البلاد في حروبها الدموية وغير الدموية، أي في سِلمَيْها المشتعل والبارد، وهي "اللامركزية"، التي طوّر بعض دعاتها أفكارهم عنها نحو "الفدرالية"، في لحظة سياسية هي الأسوأ بتاريخ البلد مع أرجحيّات عسكرية لا طاقة لهم على ردّها.
"اللامركزية" للجماعة الأهلية مفردة ذات مفعول سحريّ. مفعولها يُشعل حرباً تارةً وسلماً تارات أخرى. لكن كيف لها أن تكون الآن ضامناً، في زماننا هذا، أي "جهنّم" التي بشّر بها وافتتحها آخر رئيس للجمهورية اللبنانية ميشال عون. الأسوء في حديث اللامركزية أنها تواكب غلبة فارسية، إقليمية ومحلية. الأخيرة لا تتقن إلا إشعال النار منذ ثيوقراطية سحيقة، ومستمرّة بل مصدَّرة منذ نصف قرن تقريباً، بلباس جديد؟
مقايضات باسيل الفيدرالية
ما يبرهن الميل العارم إلى "التهديد" بالإنقسام أظهره النائب جبران باسيل في احتفال يوم الخميس في 27 تموز، عندما طلب بـ "اللامركزية" وهي بند من بنود الطائف "وخذوا أكبر تضحية لست سنوات قادمة". في كلام باسيل ما فيه من استشارة عصبيات على قاعدة أن التهويل باللامركزية على طريق الفيدرالية يبقى قائماً مقابل تسيير إعمال الدستور واستحقاقاته.
في الأساس الفيدراليات لا تزال قائمة شخصياً. الطوائف كلها (باستثناء بيروت) أوقفت البيوعات العقارية لغير رعاياها وابنائها. استشعار ذلك ليس أمراً عسيراً. عبور المتحف شرقاً أو غرباً يقول ذلك. الصعود إلى جبل لبنان يؤكد ذلك. يثبته أكثر فأكثر ولوج الضاحية الجنوبية. في كسروان وجبيل حدث ولا حرج. هذه بلاد الكانتونات والمعازل غير المُعلنة.
"اللامركزيّة" الثابتة والوطن المتحوّل
لم تعُد "اللامركزية"، منذ إقرار وثيقة الوفاق الوطني دستوراً عام 1989، على أعتاب الجمهورية الثانية وأنقاض الأولى، يداً تلوّح عند كلّ مفترق أهلي - إقليمي، بل أصبحت غبّ الطلب، يستحضرها من يشاء، ساعة يشاء، من الدستور، ليزيل غبناً ويوقع آخر يصبو إليه ويناضل من أجله، شرقاً ساعةً وغرباً ساعات، بثياب دينية حيناً، أو غير دينية أحياناً، أو من دون ثياب غالباً.
كلّما انتصب جدار واستُحضرت متاريس، يلجأ الكلّ، كلٌّ على طريقته، إلى الكلمة-المفتاح، التي تفتح أبواب الوطن على احتمالات شتّى، وما أكثرها في هذه البلاد التي على كفّ عفريت منذ قيامها.
هكذا نحن، منذ "قياماتنا" كلّها، من خطر نمضي إلى خطر، "ما همّ نحن وُلدنا بيتنا الخطر"، على ما قال سعيد عقل شاعراً ومفاخراً وواضعاً اليد على الجرح. ربّما لو يستقيم الوزن لقلنا من لامركزية نمضي إلى لامركزية... وبالإذن من كبير شعرائنا طبعاً.
لبنان رسالةٌ، على ما قال الإرشاد الرسولي الصادر عن السينودس من أجل لبنان عام 1997، لكن في التشرذم والتفكّك أو السقوط إلى الهاوية على ما يقول الواقع. "صخرة حطّها السيل من علٍ"، على ما قال الشاعر امرؤ القيس، وما تزال من درك إلى درك، من دون أن ترتطم بسوى حلم الدولة المنشودة والمواطنة المستحيلة، فتُفتّت عصباً مرتجى وتوقظ عصبيّات تخبو ولا تنام.
"اللامركزية" هذه، التي ما انفكّت تطلّ برأسها، بين الحين والآخر، تتّخذ أشكالاً عدّة بتعدّد لُبوسها. ذلك يحصل منذ الممالك الفينيقية التي شكّلت فينيقيا التاريخية صيدون وصور وجبيل، والتي نحن جزء منها، إذ كانت تمتدّ إلى سوريا الحالية وأبعد، مروراً بـ"دويلات" الانتداب الفرنسي قبل قيام دولة لبنان الكبير التي لم تبصر النور لأسباب لا علاقة لنا بها، وصولاً إلى "الدولة الدرزية" و"من بشرّي إلى المدفون"، وانتهاءً بما يصبو إليه البعض منذ الأمس القريب-البعيد.
عليه، "اللامركزية" هذه، المنصوص عليها في الدستور والمتروك تفسيرها للظروف المتغيّرة، ثابتة في الوجدان، بل الوجدانات المتعايشة، التي تتداولها وتتناوب عليها، من اليسار الطفولي الموءود إلى اليمين المسيحي الموعود، ومن الهوامش والملحقات إلى المتن، ومن الكذّابين إلى المتكاذبين، من دون أفق غير الحصص وغير بعيد عن متناول زعماء الطوائف-أمراء الحرب.
"اللامركزيّة" مُفردة بمعانٍ كثيرة
لماذا "اللامركزية" وقرينتها الفدرالية؟ لتقاسم الثروات المبدّدة والمتقاسَمة والمنهوبة، أم للمتاجرة؟ لعدم الاقتتال أم للاقتتال؟ للبناء على ما بقي أم لتبديده؟ الفدرالية هي للمّ شمل الأهل والجماعة لا المواطنين.
الفدرالية تعني على وجه من الوجوه تفريق ونثر ما بقي من لبنان هباءً. هل هي لتكوين ثقافة جامعة أم لتكريس الثقافات المتصادمة والمتناحرة، وتكريس الجغرافيات اللبنانية المتقابلة، المتّصلة والمنفصلة في آن؟
الأرجح أنّ "اللامركزية" ستار يُسدل على فصل آخر من فصول اجتماعنا الذي يبوء بالفشل. كلمة تُغني أمراء حرب عن القول لأنداد لهم وأشباه: لا نريد غلبتكم. في القاموس اللبناني قد يرادفها: إلى الاقتتال درْ، أو فشلنا، أو أفلسنا، أو لكم لبنانكم ولنا لبناننا، أو نريد وصايةً جديدة، أو لستم منّا ولسنا منكم... تعدّدت المرادفات والمعنى واحد: نحن في قعر انهيار أخلاقي وطني عميم، قبل أن نكون في لجّة انهيار اقتصادي غير معلَن، وبالإذن من غابرييل غارسيا ماركيز.
الفدرالية شمّاعة تلقي عليها الجماعات اللبنانية ما اقترفت من ولاءات واستتباع وارتهان وذنوب، مالياً ودينياً وأخلاقياً وسياسياً، أوصلت البلاد إلى درك لا يُرى منه أفق، وهي، في نهر السياسة اللبنانية الجافّ والملوّث، انفراط عقد اجتماعي متخيَّل لم يدُس أرض الواقع يوماً حتى يتّفق اللبنانيون عليه أو يختلفوا.
جلّ ما يخشاه الفدراليون أن يعلنوا انتهاء الجمهورية الثانية، وهم غير مدجّجين بسلاح يجالسون به سلاحاً مقابلاً، فلا يعودوا بغير الإياب، وربّما الغياب هذه المرّة.
السلم الأهليّ البارد لم يدفنها كانتونات وغيتوات كنّا اعتقدنا أنّها ولّت.
*عن صفحة أساس-ميديا