الكلام الذي اطلقه المفتي الجعفري الممتاز احمد قبلان في مناسبة عيد الفطر مثير وخشن، وانما يجب ان يُشكر عليه. قال ان الصيغة انتهت، اي الميثاق الذي وضعه رجلا الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح في 1943. هذه الصيغة لم تعد صالحة لدولة الانسان والمواطن. فما الذي اسقط هذه الصيغة وكيف؟ يستفيض المفتي بالتكليف في ما يشبه "فشة خلق" معددا أوجه "الحكم الفاسدة، وطائفيته الفاسدة، ومشروعه السياسي الفاسد، وتسوياته الفاسدة، ما يجعل من السياسة والادارة والوزارة والنيابة والمؤسسات العامة كلها حصصا"، اي ان البلد كله أصبح حصصا... ليصل الى استنتاج ان النظام أفلس البلد وجوع ناسه، وينهي غضبه معلنا رفضه ل"اتفاق الطائف" الذي يصفه ب"مزرعة الطوائف"! توصيف دقيق هو عبارة عن مضبطة اتهام يسوقها الشيخ قبلان ضد الطبقة السياسية الحالية التي انتفضت ضدها ثورة 17 تشرين، التي أشاد بها سماحته.
غير اننا لا نخاله هنا يتكلم عن أول عهود الاستقلال، ويخلط بينها وبين نظام الميليشيات التي صعدت الى السلطة في التسعينيات بعد نهاية الحرب، ووضعت يدها على السلطة وتحاصصت كل شيئ. وهو عمليا يرفع صوته ويدين الطبقة السياسية الحالية بأكملها، ويدين بالتالي من يمثل طائفته في مواقع مفصلية في هذه السلطة المتحاصصة والفاسدة، طالما ان الكلام هو عن "مزرعة الطوائف". لذلك قلنا انه يجب ان نشكر قبلان على ما قاله لأنه يعكس من موقعه شجاعة الاعتراف بالخطأ، وهو فضيلة. غير ان اللافت والمثير هو ان لا أحدا من السياسيين من اركان الطائفة الشيعية علق على كلام المفتي الجعفري بالوكالة، وتحديدا رئيس المجلس النيابي ورئيس "حركة امل" نبيه بري الذي يتميز عادة بدفاعه عن اتفاق "الطائف" وصيغة العيش المشترك. ولا نظن ان صمت بري هو تعبير عن موافقته على ما جاء في كلام قبلان لأنه في هذه الحالة يكون يدين نفسه مرتين، الأولى في القبول بانه جزء من منظومة الفساد التي أفلست البلد كما جاء على لسان المفتي، والثانية تنكره ل"اتفاق الطائف" الذي حمل عليه قبلان واعتبره "مزرعة الطوائف"؟! واستطرادا هل ان بري يقف وراء ما ساقه مفتي المجلس الشيعي من اتهامات كما يحصل غالبا؟ وأية رسائل أريد توجيهها، والى من؟
في المقابل، نحتلف مع قبلان في ما ذهب اليه من استنتاج غير منطقي وغير سببي أدى به الى ادانة عشوائية وغير بريئة ل"اتفاق الطائف"، الذي صحح الخلل في تركيبة الحكم وحقق التوازن الى السلطة، والأهم انه أرسى صيغة العيش المشترك، ومهد للخروج من الطائفية، التي صب قبلان جام غضبه عليها، الى رحاب الدولة المدنية اذ نص على قيام مجلس نيابي منتخب خارج التمثيل الطائفي ومجلس شيوخ يمثل الطوائف، منعت الطبقة السياسية الحالية التي تربعت على السلطة منذ ما بعد "الطائف" من تطبيقه وحولته الى "مزارع طائفية" كما وصفه سماحة المفتي. العلة اذا ليست في الدستور و"اتفاق الطائف"، وانما في من يتحكم بالسلطة ويمسك بزمام القرار، الا اذا كان الهجوم على "الطائف" يخفي نوايا أخرى القصد منها التمهيد لتعديلات جذرية على صيغة (المناصفة) في الحكم التي اعتبر المفتي انها انتهت، وهذا من شأنه ان يمهد لما قاله في اليوم التالي امين عام "حزب الله".
أطل حسن نصرالله محاولا لعب دور "الاطفاءجي" وفي لسانه حلاوة وفي يديه قفازات، ملاحظا ومطمئنا ان "الأغلبية في لبنان مازالت محكومة بالاعتبارات الطائفية - على اعتبار ان حزبه علمانيا - ونحن ضد العزل وضد الاقصاء، ولا نريد حربا أهلية ولا نريد ان نحكم البلد". جملتان مكثفتان بالرسائل والمدلولات أهمها انه لا يريد ان يحكم البلد؛ فالى من يوجه رسالة هذه، ومن اراد ان يطمئن؟ الداخل ام الخارج؟ أم الاثنين معا؟ وقي الوقت عينه هذا الكلام يعني انه يحاول ان ينفي امساكه بسلطة القرار، فقد كرر مؤخرا أكثر من مرة ان حكومة دياب ليست "حكومة حزب الله". ويسترسل في الطمأنة قائلا "ان النظام اللبناني يحتاج الى تطوير واصلاح ولكن ليس على قاعدة نسفه وانما يمكن الجلوس والبحث في تطوير الطائف".
وهنا يكمن بيت القصيد اذ ان "حزب الله" بات عمليا قابضا على السلطة في لبنان ومطمئنا الى انه صاحب القرار سواء داخل الحكومة او على المستوى الامني والاقليمي، وهو يسعى الآن لتطويع القطاع الاقتصادي والمالي. وهو يعرف ان البلد ليس مفلسا بل منهوبا. ولهذا بات اليوم من صلب التركيبة وأحد الأعمدة الاساسية للنظام، وهذا ما يؤكده وقوفه في اليوم الثالث لاندلاع ثورة اوكتوبر مدافعا بشراسة عن النظام ومتهما المنتفضين بالعمالة! فهو اذا لا يريد تغيير النظام ولا حتى الانقضاض على اتفاق الطائف، وانما يريد "اصلاح النظام" و"تطوير الطائف". انه اسلوب التكتيك الذكي الذي يعطيك بيد ويأخذ باليد الآخرى، ما يسعى اليه هو الحفاظ على النظام الذي بات يؤمن له مصالحه ويحمي سلاحه، مقابل تعديل آلية السلطة داخل هذا النظام، وتعديل التوازن داخل هذا النظام. هل نحو المثالثة المذهبية؟ وهو بذلك يطمئن عمليا باقي الاحزاب والقوى التي تهادنه وتتشارك معه في السلطة ولا تعترض على سلاحه!