تتّسع عقولهم للدنيا بأسرها: بشراً وشجراً وأحجاراً وحوادث وأفكاراً. ينطوي فيهم الجرم الصغير الذي ينطوي فيه العالم الأكبر. عقول تتّسع للحياة وما بعدها. تدور عقولهم على وقع دوران الأرض منذ ما قبل ميلادهم.
مع دوران عقولهم، تدقّ قلوبهم. تضخّ مشاعر وأحاسيس كم نحن بحاجة إليها لنبقى كما نحن: حيوانات اجتماعيةً ناطقةً. لكن مهلاً، وعند المعلّم الأكبر أرسطو: نحن حيوانات اجتماعية، أمّا النطق فلهم. هم الناطقون. وقود الكلام والزمن، وروح الأمكنة.
أمس واليوم وغداً. الكلام وما قبله وما فيه وما وراءه وما أمامه. هم الغد، وإن بدوا غابرين أو موغلين في الزمن والقِدم والتاريخ.
عمرهم من عمر الإنسان على الأرض، وعلى الرغم من ذلك عقولهم تبقى فتيّةً وشابّة. وحدها قلوبهم تتعب، من شدّة الوجع، من هول المصائب، ومن هول الحبّ، الحبّ الذي يسعنا جميعاً. حبّ المثقّفين والشعراء والصحافيين قاتِلهم.
قلب "باب الشمس"
آخر المتعبين الياس خوري، الروائي اللبناني والقاصّ والناقد والمسرحي والمفكّر واليساريّ والتقدّمي والفلسطيني... والصديق. أصيب باعياء وعارض صحي. وهو اذا يتماثل للشفاء فقد تعب المثقف والكاتب المؤدّي إلى "باب الشمس"، فلسطين، وإلينا.
نبدأ نحن اليساريّين كلّنا من الياس خوري. حبّاته نحن. هكذا قرأته، وهكذا تعرّفت إليه، وهكذا يبقى. ما زال ماثلاً أمام عينيّ وهو يجلس خلف مكتبه في مبنى جريدة النهار. وما زلت أزوره وأروي عطشي. الطريق إليه مفروشة بالقلوب. القلوب التي تخفق للوطن والإنسان: بلال خبيز، محمد أبي سمرا، عقل العويط... ثمّ الياس خوري. وما زلت أنتظر ملحق النهار الثقافي كلّ أحد. وما زال يصدر. نعم ما زال يصدر. حين عرفت أنّ الياس خوري ليس بخير، قرأتُ ملحقاً كاملاً، بل ملاحق. كان فيه أنّ اليسار تعِب، وفلسطين ليست بخير، ولبنان في خطر، وسوريا تئنّ، والسودان جريح، والعراق ممزّق، ومصر في العناية الفائقة... والإنسان، كلّ إنسان من مشرق الشمس إلى مغيبها، ليس على ما يرام.
الطينة الجنوبيّة والطبل الجنوبيّ
قبل الياس خوري، أتعبني قلب عبّاس بيضون.
عباس بيضون هكذا بلا صفة أو لقب. في حالات نادرة يصير الاسم صفةً ولقباً، ومهنةً أيضاً. لطالما حاولت تخيّل قلب عباس بيضون أو رسمه، ولم أفلح. حين ألتقيه، أتساءل دائماً: كيف يحمل عباس بيضون قلبه؟ أين يخفيه؟ أين يقع في هذا الجسد الهزيل والمنهك ذي العينين الغائرتين: "قلبي طينة جنوبية وطبل جنوبيّ"؟
حين أتعبته الطينة، وتوقّف الطبل عن تلقّي الضربات، زرته في مستشفى الجامعة الأميركية، ووقفت أمام سريره، ورحت ألاطفه ببعض العبارات، بينما كان عقلي مشغولاً بالإجابة عن سؤال وحيد ما زلت تائهاً في بحار الإجابة عنه: كيف يتّسع مستشفى لطينة جنوبية عملاقة حبّاتها قصائد ومقالات وأفكار وجمل وعبارات لا تُنسى؟ كيف تتمدّد طينة بحجم الجنوب، الجنوب الذي هو أكبر من الكرة الأرضية والعالم، على سرير صغير تؤمّه عقول نيّرة من كلّ حدب وصوب؟
كنت أطرح تلك الأسئلة على نفسي، لأخفي حقيقة أنّ قلب عباس بيضون، تعب من دخول "حفاة المدن" إليه وخروجهم كلّ خفقة ومع كلّ دقّة، أو عند كلّ ضخّة. تعب القلب الذي يدقّ للقضايا. تعب القلب الذي يخفق للكلمات ويضخّ الأفكار والعجب العجاب. تعب لكنّه لم يتوقّف. تعب لكنّه ما زال يهتف حبّاً وشوقاً ويصرخ: "يا عليّ نحن أهل الجنوب حفاة المُدن".
شرايين قلبه طرقات إلى فلسطين
وعيت على القضية الفلسطينية. نما جسدي على ما كان يتواتر من أبطال وأخبار وأحداث عنها. رأيت العالم بعيونها، وشممت رائحته بأنفها، وتذوّقت كلّ شيء بفمها: الطعام والشراب والمقالات والقصائد والكتب والأفكار واليسار واليمين... إلخ.
مرّت القضية الفلسطينية بمنعطفات شتّى، واصطدمت بجدران كثيرة، ووقعت في فِخاخ خبيثة، ولم تتعب. تنقّلت بين بلدان عدّة وصدحت فوق منابر لا تُعدّ ولا تُحصى، وما تزال، وهي حتى ذاك اليوم كانت فتيّةً وشابّةً، وكأنّ الزمن لم يمرّ بها.
لكنّها في ذلك اليوم في باريس، دخلت غرفة العناية الفائقة. ذهبت إلى الموت في زيارة خاطفة وعادت سريعاً إلى الحياة. دخلت العناية الفائقة "مديح ظلٍّ عالٍ" وخرجت "جداريّةً" تنبض بالغد والأمس واليوم.
لم أخَف على القضية الفلسطينية يوماً كما خفت عليها يوم تعب قلب محمود درويش. قبل أن يتعب قلبه، كنت أقرأ أخبار فلسطين كما لو أنّها عن بطل جبّار يخوض معركةً تلو معركة من دون تعب، ومن دون أن أخاف عليه أو أقلق على مصيره. وبعدما خرج من العناية الفائقة، صارت أخبار فلسطين تصلني وكأنّها أخبار رجل مريض يقبع في غرفة في مستشفى، وينتظر ذووه على بابها، خبر موته.
انسداد الطرق إلى فلسطين
لم أنتبه إلى أنّ القضية الفلسطينية جاوزت الخمسين من العمر، وكبرت وترهّلت إلا حين أُعلن أنّ محمود درويش خضع لعملية جراحية في القلب في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية، وأنّ الأطبّاء تردّدوا كثيراً قبل إجرائها. قالوا يومها إنّ التردّد باعثه انسداد في الشرايين الرئيسية في القلب وتهديد أحدها بالانفجار. شعرت أنّ الانسداد كان في الطرق المؤدّية إلى فلسطين، من سوريا والأردن ومصر، وأنّ الطريق المهدّد بالانفجار، أقصد الشريان، يربط لبنان بـ"أرض البرتقال الحزين"، وأنّ غسّان كنفاني لن يعود إلى حيفا.
منذ وفاة محمود درويش وأنا أشعر بأنّ فلسطين تعيش بقلب صناعي، لا بقلب محمود درويش، وربّما يكون هذا هو جوهر الأزمات السياسية المتلاحقة، والانقسام الفلسطيني، والمدخل إلى الحلّ.
ثمانية آلاف قلب
في زاوية استراتيجيّة وعلى طاولة من طاولات مقهى المودكا، كان قلبٌ كبيرٌ يراقب المارّة والليل، وينفث
كان "كشهر طويل من العشق" ذاك الطاعن في الحياة الذي لم يخيّل لي يوماً أنّ قلبه سيتعب، لكنّه تعب فعلاً، تعب يوم تعب شارع الحمرا ولفظ أنفاسه الأخيرة، ويوم تعب الليل، وتوعّكت الكلمات...
يقول بول شاوول في حوار معه: "ترجمت ثمانية آلاف قصيدة من الشعر الإسباني والألماني والياباني والهندي والإيطالي والصيني والفرنسي...". ثمانية آلاف قصيدة تدمي قلوب البشرية جمعاء... فما بالك بقلب شاعر وناقد وصحافي واحد. قلب بثمانية آلاف قلب. هكذا هو بول شاوول.
قلب بول يكاد أن يكون قد أقفل سيرة مفتوحة عن بلد فشل أن يكون دولة. أن يتعب قلب بول شعراً ونثراً فهذا لا ينبىء إلّا بالأسوأ.
*عن صفحة أساس-ميديا