شملت ورقة التفاهم 10 بنود بقيت حبراً على ورق منذ 2005، فيما حال لبنان كانت تتدهور على مختلف الصعد. سنحاول في الجزء الثاني استعادة تلك البنود ومقارنتها بالوقائع:
- البندان الأول والثاني يتحدّثان عن "الحوار والديمقراطية التوافقية".
- البند الثالث يتحدّث عن قانون انتخابي عصري "يمكن أن يكون النظام النسبيّ". وهذا هو البند الوحيد الذي طبّقه الفريقان من بنود اتفاق مار مخايل. لكنّ القانون، الذي فرضه حزب الله كرمى لعيون باسيله، لم يكن عصرياً بل شديد المذهبية. وإن حقّقا أرباحاً في البداية، فإنّ القانون أنتج مجلساً خارج الأكثريّات في النهاية بعد تغيّر المزاج الشعبي غداة ثورة 17 تشرين 2019. وإن حافظ حزب الله على قوّته وجمهوره، بدا التيار العوني كأنّه يشحذ النوّاب. ففي الكواليس كثيراً ما يُحكى عن تسليف حزب الله خمسة نواب للتيار العوني بـ"الفان الشيعيّ". في المقابل حقّقت القوات اللبنانية مكاسب جمّة من هذا القانون بـ"التاكسي السنّيّ".
- البند الرابع هو بند "بناء الدولة" الذي طالما تغنّى به جبران باسيل الذي أوكل إلى حليفه كلّ ما يتعلّق بالمواضيع "الاستراتيجيّة" بدءاً من حرب تموز 2006 إلى الحرب على المحكمة الدولية إلى الحرب السورية، فانتهى الحال إلى تدمير الدولة اللبنانية.
أ - بند "مكافحة الفساد" درّة الدعاية العونيّة لم ينجم عنه سوى استشراء الفساد. التدقيق الجنائي في ملفّات مصرف لبنان والمال لم يسلك طريقه. حزب الله لم يسانده وربّما كان مع الواقفين ضدّه. كان باسيل يتوهّم أنّ حزب الله معه في مواجهة نبيه برّي وحلفائه. لكنّ حصاد الحقل يختلف عن حصاد البيدر. باختصار، بناء الدولة فازت به الدويلة، أو الدويلة أطاحت بالدولة.
ب - بند "استقلالية القضاء التامّة"، تجلّت طامته الكبرى في ظاهرة غادة عون. ثمّة عناوين في هذا البند تبدو كوميديّة الآن إذا تأمّلنا عناوينها ومسارها، ومَن ربح فيها ومَن خسر: "احترام عمل المؤسّسات الدستورية، معالجة الفساد من جذوره، تشريع قوانين محاربة الفساد، والعمل على إصلاح إداري شامل مع وضع مهل زمنية لمعالجة هذه القضايا". وهنا حدّث ولا حرج عن التدمير الممنهج للدولة كلّها: من الجامعة إلى المؤسّسات الطبّية إلى الاقتصاد، من دون أن ننسى الكهرباء والجسور. لم يبقَ شيء على حاله في لبنان. وهكذا ربح حزب الله المزيد من تمدّد الدويلة. وبدا تكتّل لبنان القوي مجرّد حالة باسيليّة ربحت في حشو المؤسّسات بمواليها من الموظّفين. والنتيجة المزيد من الهدر والإفلاس.
اللحديّون والمفقودون والأمن
- البندان الخامس والسادس يتحدّثان عن "المفقودين خلال الحرب وعن اللبنانيين في إسرائيل". عن هذين البندين تحدّث العماد عون باستمرار قبل اتفاق مار مخايل. لكنّهما اختفيا كليّاً عن أجندة الفريقين. لم يعد التيار العوني يطالب بالمفقودين، ولم يعد يهتمّ باللحديّين الهاربين إلى إسرائيل ولا بالمعتقلين في السجون السورية، وأكثرهم من العونيين. إثر زيارة عامر فاخوري لبنان وتوقيفه، بدا أنّ التيار العوني خسر هذه المعركة. فلا أحد يستطيع أن يُلغي الألم الذي سبّبه جيش لحد في الجنوب: الماضي الذي لا يمضي. لكنّ فاخوري خرج من لبنان بطائرة أميركية وبمباركة من الحزب والعونيّين معاً.
- البند السابع: يتطرّق إلى "المسألة الأمنيّة"، ويأتي ضمن فقراته الحديث عن "الاغتيالات السياسية وإصلاح الأجهزة الأمنيّة وتحييدها عن المحسوبيّات السياسية". من يتأمّل حال أمن الدولة وتبعيّته العونية يغصّ بالضحك. ومن يتذكّر الاغتيالات السياسية التي طالت قوى 14 آذار يغصّ بالبكاء. ربّما يقول إنّ الأشباح قتلتهم.
- البند الثامن يتناول "العلاقات اللبنانية السورية". لم يكن سوى حبر على ورق. وتساوى لبنان مع سوريا بخرابه.
- البند التاسع يتحدّث عن "العلاقات اللبنانية الفلسطينية" وعن حقّ العودة ورفض التوطين وسحب السلاح خارج المخيّمات. كانت مفاعيله عكسية: استغلّه حزب الله من خلال استعماله الفصائل الفلسطينية الموالية له "حماس" في خدمة أغراضه ومآربه.
- البند العاشر، وهو البند الأهمّ في الاتفاق بالنسبة إلى حزب الله، ينصّ على أنّ "حمل السلاح ليس هدفاً بذاته وإنّما وسيلة شريفة مقدّسة... وهي تشكّل مكامن قوّة للبنان ويجب الإبقاء عليه طالما إسرائيل تشكّل خطراً على لبنان". هذا إضافة إلى "تحرير مزارع شبعا وتحرير الأسرى والاستراتيجية الدفاعية". هنا لبّ الاتفاق وكلّ ما حوله كان زينةً وحسب. حزب الله جعل الآخرين يتلهّون بأمور أخرى فتناسوا السلاح ودوره.
تمدّد الحزب مسيحيّاً وسنّيّاً
ربح حزب الله سياسياً من خلال الحصول على غطاء مسيحيّ لمرحلة كانت شديدة الوطأة عليه. وأوهم المسيحيين بأنّ داعش كان سيصل إلى جونيه لو لم يواجهه، وتماهى باسيل مع هذه الشعارات.
استغلّ حزب الله شهوة السلطة لدى الحليف الجديد لكي يحصل على غطاء مسيحيّ لم يكن يحلم به بعد عزلته عن المكوّنات اللبنانية الأخرى. استغلّ الحزب الفرصة فتمدّد جغرافياً داخل المناطق المسيحية ولاحقاً السنّيّة.
استفاد التيار من السلطة التي حصل عليها ومن مقاعد وزارية ونيابية وتعيين مديرين عامّين ومراكز عسكرية، وصولاً إلى رئاسة الجمهورية. ومقابل فوز التيار بهذه المناصب الزائلة بانتهاء مدّتها، حقّق حزب الله الفوز الاستراتيجي: التغييرَيْن الديمغرافي والأيديولوجي اللذين تسلّلا ونخرا بيئات ومجتمعات لبنانية. وهذا ستبقى آثاره موقّعة باسمَيْ موقِّعَيْ التفاهم المشين واللعين: نصر الله وعون.
ربّما لم يعد يجدي الكلام عن النقيضين اللذين اجتمعا في حلف واحد: حزب الله الذي يحلم بالجمهورية الإسلامية وولاية الفقية، والتيار العوني الذي يريد العودة إلى الجمهورية الأولى والنظام الرئاسي. لكن لا حزب الله قادر على ترسيخ دولته، وإن كان مرشده يواظب على إطلالات متلفزة لتوجيه السياسة اللبنانية، ولا العوني استطاع أن يعيد الزمن الرئاسي على الرغم من محاولات ميشال عون طوال رئاسته.
تجلّى الحصاد الأكبر، الذي نتج عن مار مخايل، في تعطيل مؤسّسات الدولة وتخريبها. وتحوّل التعطيل نهجاً سائداً امتدّت مفاعيله حتى اليوم.
*نُشر على صفحة اساس-ميديا