حرّك الإرهاب الذي يمارسه متطرّفون أطلقوا على أنفسهم اسم "تنظيم دولة الاسلام في العراق والشام" مخاوف الكثيرين من اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، فباتت مسألة الحماية مسألة أساسية، دفعت البعض الى عقد مؤتمر في واشنطن لطرح هذه المسألة، وبحث سبل تأمين الحماية المطلوبة للمسيحيين، في حين أن المطلوب كان تأمين الحماية للإنسان في منطقتنا، أكان هذا الانسان ينتمي الى أقلية مسيحية تتعرض في العراق لإرهاب "تكفيري" أم ينتمي الى أكثرية إسلامية تتعرض في سوريا لإرهاب "بعثي".
في ظلّ التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي، يجد المسيحيون أنفسهم أمام سؤال من طبيعة وجودية: هل هم أقلية بحاجة الى حماية دائمة من خطر الأكثرية عليها، أم هم جماعة يتشاركون مع الجماعات الأخرى مسؤولية إدارة شؤونهم المشتركة والدفاع بعضهم عن البعض الآخر؟
في العام 1920، تصرّف المسيحيون كجماعة لا كأقلية، فرفضوا فكرة "الوطن القومي المسيحي"، مطالبين بقيام "لبنان الكبير" الذي يضمّ إلى الجبل ذي الأغلبية المسيحية مناطق ذات أكثريات إسلامية.
وفي العام 1943، تصرّف المسيحيون كجماعة لا كأقلية، فرفضوا بقاء الانتداب وناضلوا من أجل الاستقلال الناجز.
بدأت الأمور تتغيّر مع تغير قواعد اللعبة السياسية والانتقال من كتل سياسية عابرة للطوائف، كالكتلة الدستورية والكتلة الوطنية، الى أحزاب عمدت الى اختزال الانسان بمكوّن واحد من مكوّناته، هو المكوّن الطائفي، معتمدةً من أجل ذلك سياسة التخويف من الآخر.
جاءت حوادث العام 1958 في سياق هذا التحول الأساسي الذي أفشل في ما بعد محاولة الرئيس فؤاد شهاب إعادة تأسيس العيش المشترك بشروط دولة أكثر عدالة وحداثة تستطيع حماية لبنان واللبنانيين، فدخلت البلاد في حرب استمرت 15 عاماً (1975-1990).
عندما تصدّت الكنيسة للمنطق الأقلّوي
عمدت الكنيسة الى وضع المنطق الأقلّوي جانباً وإفساح المجال إلى التوصل مع المسلمين الى اتفاق، هو اتفاق الطائف، لإنهاء الحرب ووضع العيش المشترك في أساس شرعية الدولة والربط بين فكرتَي المواطنة والتعدد للمرة الأولى في الشرق العربي.
فقد عبّر المجمع البطريركي الماروني (2006) عن موقف مميّز من اتفاق الطائف يتخطى منطق المحاصصة الذي استخدمه أصحاب النظريات الأقلّوية لتبرير رفضهم الاتفاق. فقد جاء في نصّ المجمع ما يأتي:
"ساهمت الكنيسة المارونية في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف (1989). ونظرت الكنيسة إلى هذا الاتفاق على أنّه مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين مَن كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين مَن كان يسعى، باسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته. ورأت الكنيسة كذلك أنّ هذا الاتفاق يثبّت أولويّة العيش المشترك على كلّ ما عداه، ويجعل منه أساسًا للشرعيّة" (الفقرة 28 من النص التاسع عشر). كما رأت أيضاً أن "مقدّمة اتفاق الطائف حسمت الجدال حول طبيعة العقد الاجتماعيّ بين اللبنانيين، فاعتبرت أنّ العيش المشترك هو في أساس هذا العقد، وأنّ لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" (الفقرة 29 من النصّ التاسع عشر)
هذا الإنجاز أفشله مَن كان في ذاك الزمن طامحاً الى السلطة، وذلك بحجة أنه لا يتضمّن موقفاً حازماً من الوجود السوري في لبنان، فدخل في "حرب إلغاء" بين المسيحيين أدّت الى وضع البلاد تحت سلطة النظام السوري الذي أعاد إحياء المنطق الأقلوي من خلال عرض نفسه مدافعاً عن "الحقوق" المسيحية في مواجهة "أطماع" المسلمين.
مرةً جديدة، تصدّت الكنيسة للمنطق الأقلّوي، فكانت في طليعة المبادرين، بعد الانقسام الأهلي الذي أحدثته الحرب، الى ترميم العيش المشترك الاسلامي – المسيحي في لبنان. وذلك من خلال جهد استثنائي، بدأ مع السينودس من أجل لبنان (1995) واستمر مع الإرشاد الرسولي (1997)، وذلك لـ"تنقية الذاكرة" ومغادرة "ثقافة الحرب" وإعادة الاعتبار الى معنى لبنان ورسالته.
وفي العام 2000، تصرّف المسيحيون كجماعة لا كأقلية، فطالبوا مع بيان المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000، بخروج الجيش السوري من لبنان، وأطلقوا مع "لقاء قرنة شهوان" الجهود لتوحيد الصفّ مع المسلمين، وذلك ايماناً منهم بأن التوافق مع المسلمين هو الشرط الأساس لاستعادة السيادة والاستقلال. وجاءت المصالحة التاريخية في الجبل إثر زيارة البطريرك الماروني (5 آب 2001) لتؤكد أهمية التلاقي الاسلامي - المسيحي.
وفي العام 2005، تصرّف المسيحيون كجماعة لا كأقلية، فلعبوا دوراَ أساسياً في انتفاضة الاستقلال. وقد جاء في نصّ المجمع البطريركي الماروني ما يأتي:
"فبعد أن كانت كلّ مجموعة تبحث عن ضمانات لها خارج الشريك الآخر، قام استقلال لبنان في العام 2005 على موقف مشترك مسيحيّ وإسلاميّ، يؤكّد حقّ اللبنانيّين في أن يكون لهم وطن حرّ ومستقلّ، وأن يعيشوا فيه مختلفين من حيث الانتماء الدينيّ، ومتساوين في مواطنيّتهم. واللبنانيّون مطالَبون باستخلاص دروس الحرب، والإدراك أنّ مصير كلّ واحد منهم مرتبط بمصير الآخر، وأنّ خلاص لبنان يكون لكلّ لبنان أو لا يكون، ويقوم بكلّ لبنان أو لا يقوم، ذلك أنّه ليس من حلّ لمجموعة دون أخرى، ولا لمجموعة على حساب أخرى" (المجمع البطريركي الماروني، الفقرة 33 من النصّ التاسع عشر)
غير أن الصراع على السلطة دفع بقيادات مسيحية شاركت في انتفاضة الاستقلال الى التراجع عن موقفها والعودة الى المنطق الأقلوي، بحجة "خطر سنّي" يستهدفها، متجاهلةً التحوّلات التي أحدثها الرابع عشر من آذار والتي جعلت من شعار "لبنان أولا"، وهو شعار المسيحيين التاريخي، شعاراً اسلامياً بامتياز. استخدمت هذه القيادات شعار "الخطر السنّي" لتبرير توقيعها "ورقة تفاهم" توفر لها دعماً في طموحها الى السلطة.
هذا الصراع الذي لا تحدّه ضوابط، هو الذي دفع قيادات مسيحية الى تأييد النظام السوري ضد شعبه والتنبؤ بانتصاره السريع، الأمر الذي جعلها، على نحوٍ ما، شريكة في الجريمة ضد الإنسانية التي تُرتكَب في سوريا.
أخيراً هذا الصراع، هو الذي أوصل البلاد الى فراغ دستوري في لحظة شديدة الخطورة، وأدى الى التضحية بالمركز المسيحي الأول في السلطة، وذلك من قبل من يدّعي الدفاع عن حقوق المسيحيين.
* * *
بهذا الحلّ يخرج المسيحيون من الخطر
المسيحيون هم اليوم في خطر، لكن الخطر لا يأتي من الخارج بل من الداخل، وتحديداً من هذه العقلية الأقلوية القائمة على التخويف من أجل الإتيان بقائد ملهم يتولى خلاص الجماعة.
إن الخروج من هذا المنطق يبدأ بالإقرار، كما جاء في نصّ المجمع البطريركي الماروني، بأن المسيحيين "ليسوا أقليّة ترتبط بعلاقات جوار وتساكن مع الآخرين، وتبحث عن سبل تنظيم تعايشها مع الأكثريّة والمحافظة على خصوصيّتها. إنّهم جماعة لها دور فاعل من خلال تواصلها وتفاعلها مع كلّ الجماعات في رسم مستقبل مشترك لها ولهم، يقوم على المبادئ التي تؤمّن للإنسان حريّته وتحفظ كرامته وتوفّر له العيش الكريم. وقدر الموارنة وخيارهم هو أن يكونوا عامل تواصل في هذا الشرق بين مكوّناته المتعدّدة وبينه وبين العالم، وقوة دفع نحو المستقبل في مواجهة التخلّف".
وهو يتطلّب أيضاً الإقرار، كما جاء في رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، بـ"أن المسيحيّين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضاريّة للمسلمين، كما أنّ المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضاريّة للمسيحيين. ومن هذا المنطلق، فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ".
تأسيساً على ما تقدم، فإن المهمة الأساسية لمسيحيّي لبنان والعالم العربي هي اليوم في العمل على إعلاء شأن ثقافة السلام والعيش معاً، في مواجهة ثقافة العنف والإقصاء التي لا تزال تُلقي بثقلها على إنسان هذه المنطقة من العالم.
تقوم "ثقافة الحياة" على قرار حاسم، هو قرار "العيش معاً" متساوين في حقوقنا والواجبات، ومختلفين في انتماءاتنا الثقافية والطائفية، ومتضامنين في سعينا نحو مستقبل أفضل لجميعنا، مسيحيين ومسلمين.
هذا القرار يتطلّب أولاً الشجاعة:
الشجاعة في الإقدام على "العيش معاً"، متجاوزين مخاوفنا الطائفية المتحدرة من الماضي، وغير باحثين عن "أمان زائف" يُغرينا به الانغلاق داخل "قبيلة" ما، أكانت قبيلة طائفية أم حزبية، تقليدية أم "حديثة"، موروثة أم اختيارية، محكومة لرمزية دينية أم محددة بلون أو راية أو شعار.
الشجاعة في الإقدام على "العيش معاً"، من دون أن يشكّك أحدنا في الآخر، ومن دون اعتبار الفروق مع الآخر المختلف، سبباً لتراتبية من أيّ نوع تسوّغ السيطرة عليه أو إقصاءه. فأن تكون مختلفاً عن الآخر، هو أمرٌ لا ينطوي على أيّ حكم قيمي. إنه بكل بساطة تعبير عن حالة طبيعية وحقيقة مجتمعية.
الشجاعة في الإقدام على "العيش معاً"، مدركين أن مستقبلنا المشترك لا يرتسم لمرة واحدة والى الأبد، بل يتطلّب عناية دائمة وتسويات متجددة، ومدركين أيضاً أن هذا القدر من "اللايقين" الاجتماعي ليس حالة شاذة، وانما هو ملازم لكل علاقة اجتماعية.
هذا القرار يتطلّب أيضاً، وخصوصاً، ذكاءً وفطنة:
فطنةً تجعلنا ندرك أن العلاقة مع "الآخر" المختلف ليست فقط ضرورة يُمليها علينا واقع العيش في مجتمع متنوّع، بل هي مصدر غنى لكل منا ولجميعنا. ذلك أن شخصيتنا إنما تتكوّن وتتشكّل من خلال علاقتها بالآخر الذي يضيف اليها أبعاداً جديدة. وهذه الإضافة تكون كبيرة وغنية بمقدار ما يكون الآخر متنوعاً.
ذكاءً يجعلنا ندرك أن غنى مجتمعنا وأسلوب عيشنا لا يتأتّيان من مجرّد التجاور والمساكنة بين طوائف مختلفة، بل من "العيش معاً" الذي يربط ما بين الطوائف بأواصر المودة والاحترام، والذي يجعل من المجتمع اللبناني بيئة نموذجية للتفاعل الانساني. هذا في زمن بات موضوع "العيش معا"، ولا سيما في ظلّ المتغيّرات الكبرى التي أحدثتها وتحدثها العولمة، يمثّل تحدياً كبيراً على صعيد الانسانية جمعاء.
فطنةً تجعلنا ندرك أن لبنان لا يستطيع التماثل مع أيٍّ من مكوّناته الطائفية. لكل طائفة خصائصها ومميزاتها، ولكن لبنان لا يُختزَل بواحدة منها، كما أنه لا يشكل حاصل جمع حسابي لتلك المكوّنات. إنه أسلوب عيش عدد من الطوائف معاً. هذا العيش معاً، أو العيش المشترك، هو جوهر وجود لبنان في هذا العالم، وسبب فرادته في منطقة تقوم دولها جميعاً على فكرة الانصهار والعصبية القومية.
أصبحنا اليوم، بعد نصف قرن من الحروب المتواصلة، الحروب الساخنة منها والحروب الباردة، أمام استحقاق مصيري. فبقاؤنا وبقاء أولادنا في هذا البلد بات مرتبطاً بقدرتنا على إحلال السلام فيه.
فالسلام هو البديل من الحرب الأهلية السنّية- الشيعية التي تتهدّدنا جميعاً في لبنان والمنطقة.
والسلام هو شرط لحماية لبنان من كارثة اقتصادية تنتظره بسبب تداعيات الحرب السورية وتهجير مئات الألوف إلى لبنان.
والسلام هو شرط لتجديد دور لبنان في محيطه العربي في لحظة التحولات الكبرى.
* * *
أشعر في هذه الأيام بشيء من المهانة عندما أرى البعض يتوسل، باسمي، حمايةً من هنا أو هناك. أقول لهذا البعض إن حمايتي، كحماية شريكي في هذا الوطن، تأتي من مكان واحد، تأتي من دولة أتشارك معه في بنائها وإدارتها. وأقول أيضاً لهذا البعض إنه من المعيب المطالبة بحماية المسحيين والاستمرار في الوقت نفسه بالسكوت عن مجازر متواصلة في حقّ المسلمين.
هذا الكلام قلته في الخلوة العاشرة لـ"لقاء سيدة الجبل" الذي انعقد في 31 آب 2014.
أرى أن الوقت قد حان لوضع حدّ لهذا المسار الانحداري الذي حوّلنا من جماعة لعبت دوراً أساسياً في قيام الكيان اللبناني وبناء دولته، الى أقلية يدفعها هاجس الخوف الى البحث عن حماية لها من خارج الدولة، وعلى حسابها.
لا نريد حمايةً من الغرب. نريد منه أن يشاركنا في معركتنا من أجل سلام لبنان وسلام منطقتنا، وأن يعمل من أجل ذلك على تصحيح أخطاء ارتكبها وأوصلت المنطقة الى ما هي عليه:
خطأ إبقاء الصراع العربي- الاسرائيلي من دون حلّ، الأمر الذي ولّد حروباً دورية ونزاعات دموية.
خطأ التحالف مع أنظمة الاستبداد في المنطقة زمناً طويلاً وعلى حساب شعوبها.
خطأ تدمير الدولة في العراق وإبقاء مواطنيها من دون حماية.
خطأ السكوت على جريمة ضد الانسانية تُرتكَب في سوريا.
لا نطلب من الغرب سوى تصحيح أخطائه. أما خلاصنا الفعلي والحقيقي فبيدنا معاً وجميعاً.