لا.. بيروت ليست ”عاصمة الإعلام العربيّ“ - أيمن جزيني

لا.. بيروت ليست ”عاصمة الإعلام العربيّ“ - أيمن جزيني
السبت 27 مايو, 2023

 

قرّرت جامعة الدول العربية إعلان بيروت عاصمة الإعلام العربي لعام 2023. الحدث أسعَد وزراء حكومة تصريف الأعمال فأقاموا احتفالاً لجثّة كان يفترض تأبينها لا الرقص عليها. في الأساس لم يكن الإعلام العربي في يوم من الأيام محلّ احتفاء. كارثيّته بدأت مع البيانات المدبّجة التي كانت تُصدرها "مجالس الثورة" أو "الأمانات العامّة للقيادات القطرية".

كان لبنان استثناء من ذلك. ميزته التفاضلية أنّه كان صاحب دور و"مختبر أفكار". اليوم صار كلّ هذا هُراء. لبنان لم يعد صاحب دور. صار بلاد الموت العاديّ لكلّ شيء. قد يكون بعض الإعلام العربي، خصوصاً الخليجي منه، قادراً على تقديم جديد يضيف إلى بلاده أدواراً أخرى... لكن ليس لبنان.

أحوال صحافة لبنان وأهوالها

سال حبر كثير وكثيف عن أحوال الصحافة والصحافيّين. ليست الصحافة اللبنانية بخير. بل قل إنّها في طريق الانقراض. هذا أمر بات مفروغاً من صحّته. الصحافة في جمهورية الأرز، مكتوبة ومرئية ومسموعة ومنصّات، لم يعد يغذّيها القارئ أو المشاهد أو الإعلان التجاري. بعضها صار يموّلها المجهول. هذا إن كان ثمّة مجهول ما زال راغباً بالتمويل.

الهذر اللبناني المُقيم في احتفال "إعلان بيروت عاصمة الإعلام العربي" دفع بعضاً من الحاضرين بصفاتهم وشخوصهم إلى أن يبالغوا في الحديث عن إعلام حرّ. البعض الآخر ممّن حضروا أو شاهدوا الاحتفالية (من بينهم كاتب هذه الأسطر) يفترضون أنّ الإعلام اللبناني لم يكن حرّاً أصلاً، لا اليوم ولا أمس ولن يكون في المستقبل.

كان الإعلام اللبناني صاحب وظيفة أدّاها على أكمل وجه حين كان للبلاد دور في المستقبل والرؤية والأسبقيّة. لكنّ السؤال الذي يتجاهله الجميع اليوم: أما زال القارئ أو المتابع أو المشاهد حرّاً؟ وهل في لبنان واحد من هؤلاء أصلاً؟

في بلاد "اللبنانويّة المُضخّمة" تشظّى الجميع. صار الغالب منّا أبناء عصبيّات أهليّة. مَن نجا من هذا البلاء صار يرفع معدّل قراءة أخبار من نوع: "مشاهد مثيرة للفنّانة هذه بالمايوه".

المبالغات اللبنانيّة

لقد بالغ اللبنانيون في انقساماتهم القاتلة حتى وصلوا إلى حدّ معاداة بعضهم. ذهبوا أبعد من ذلك كثيراً حين تقاتلوا على حدود الحرّية تبعاً لهويّات المناطق. صار سقوط الحرّيات الفردية تباعاً مسألة عاديّة. كان ذلك متوقّعاً من العاديّات اللبنانية بعدما سكتوا على سقوط حرّياتهم السياسية وسلّموا البلد وأهله للاحتلال السياسي الإيراني.

الإعلام "المُحتفى به" لبنانيّاً ساهم في تسعير نار الانقسامات بحطب متجدّد. لكنّ اللبنانيين المتشظّين صاروا محازبين بدلاً من أن يكونوا قرّاء ومتابعين. هذا تبدّى بوضوح في مناطق ما عادت تستقبل صُحفاً بعينها. الأكثر فجاجة أنّ مُشغّلي "خدمة الكابلات التلفزيونية (الستالايت)" حلّوا مكان "الأمن العامّ" (الذي ليس من شأنه أن يقرّر أصلاً) فصاروا يقرّرون ما هو الأصلح والأصوب لمناطقهم. هذا حصل ويحصل في زمن الهواتف الذكية.

السؤال: كيف يُعقل أن تقاطِع جماعة أهليّة ما محطّةً تلفزيونية برمّتها أو جريدة ما؟

مع ذلك كان من بين المتحدّثين في احتفالية بيروت الوزير علي حميّة ممثّل حزب الله في الحكومة، وأمعن في الحديث عن حرّية الإعلام وحرّية متابعيه.

المصادر والشائعة بدلاً من الخبر

هذا حصل في لحظة من لحظات البلد وعلى امتداد السنوات العجاف الأخيرة وما قبلها يوم صار لبنان ساحة. الأرجح أنّه لم يكن دولةً ناجزةً في يوم من الأيام. وهذا ما لم يُولِه كلّ الإعلام، إدارات وإعلاميين، بعض اهتمامه. كان القرّاء والمتلقّون أكثر كارثية يوم باتوا لا يصدّقون الخبر، ويجنحون إلى تقبّل الشائعة.

الفضيحة الكبرى أنّ الجميع ما عاد يسأل السياسي أو الأمني أو حتى الإعلامي عن مصدر معلوماته. شاعت مفردات من نوع "مصادر موثوقة" أو "مصادر مطّلعة" أو "مصادر لصيقة". أحدهم يقول عبر الشاشة: "معلوماتي من عند الأميركيين"، من دون أن يحدّد أيّ أميركي قال له هذه المعلومات، علماً أنّ الأميركيين بلغ تعدادهم حتى نهاية عام 2022 أكثر من 330 مليون نسمة. صار هؤلاء قدس الأقداس، وبالتالي ما يقولونه هو المُقدّس بعينه. هكذا راح المُتابع يعيش عيشه السياسي وحتى المعيشي استناداً إلى "الشائعة" أو "المصادر".

الانهيار الكبير

انهار البلد انهياراً كبيراً منذ صارت الدولة عزيزة المنال في كلّ شيء. بل إنّ أهل الإعلام كما أهل السياسة والأمن صاروا يستسهلون أخذ الناس على الشبهة. ما عادوا يتورّعون عن أخذ الناس جميعاً بالشبهة والظنّ ومحاكمتهم على أساس الشبهة والظنّ لا على أساس القرينة والدليل. صار الملتحي "داعشيّاً". وأصبحت بيئات بعينها مُستهدَفة على طريق إنهاء البلد لإعادة تعريفه مُجدّداً وفقاً لتوازن القوى، وليس على قاعدة "قوّة التوازن".

صحافيّو لبنان على مثال بلدهم هم أيضاً منقسمون مثل بيئاتهم الأهليّة. وليس من مكان على غالبية الشاشات والمنصّات الإلكترونية والصحف لمن يقول رأياً مغايراً لرأي الطائفة التي ينتمي إليها.

قد يكون هذا الانحياز مفهوماً ومبرَّراً عند المحافظين واليمينيّين منهم، لكن ما لا ليس له أيّ تفسير عند اليساريين هو ذاك الانحياز الأعمى لكل ما هو ضدّ الدولة وأوّله "السلاح غير الشرعي".

الأنكى أنّ البعض يعتبر أنّ اليسار بالنسبة له وللبنان عموماً يقع في موقع التطابق المجّاني والاستسهالي مع خطاب حزب الله والعداء للّيبرالية الأميركية أو الأوروبية، وليس في موقع الناقد الجدّيّ من منطلق أنّ اليسار يوصف تعريفاً بالفكر النقدي الأبدي بامتياز.

حبر الطوائف والمذاهب

هذا البلد بات علينا أنّ نفكر جدّياً في تأسيس رديف له في بقعة من بقاع العالم. ذلك أنّ جزءاً وازناً من الإعلاميين فيه ما عادوا يكتبون إلا بحبر طوائفهم ومذاهبهم ومموّليهم. وهؤلاء ما عاد لهم متّسع للتوبة والعودة إلى إبداء الرأي الحرّ والمستقلّ. لقد انغمسوا بهذا الحبر حتى لوّث أجسادهم وعقولهم.

الصحافة اللبنانية في أزمة جدّية. وما كانت تستأهل بيروت إعلانها "عاصمةً للإعلام العربي" حتى لو كان ذلك نوعاً من "الإغاثة" لبلد فقد كلّ شيء. هذا بلد لا يتجاوز عدد سكّانه ستّة ملايين (مع اللاجئين والنازحين) إلا بشقّ الأنفس، لكنّ إعلامه المرموق لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من بين عشرات ومئات، وهو رقم هائل بمقاييس الانهيار. لكن لا يصلح في كلّ الأحوال أن يكون "عاصمة لصحافة حرّة".

في مثل هذه المناسبة، وهي شديدة الآصرة بهويّة الجغرافيا التي نعيش عليها، يجدر بنا نحن اللبنانيين أن نتحسّس الألم والحزن اللذين صار عليهما البلد، وأن ندرك أنّ كلّ ما أضعناه وفقدناه هو أيضاً سبب حاسم للتحسّر، وليس الرقص على جثّة وطن كان يُقال فيه عن الكُتب "صدر حديثاً"، فيما دولٌ أخرى كانت تعلن "وصل حديثاً"، أي بعد ردحٍ من أزمنة التمحيص والتدقيق خوفاً من نسيم الثقافة والحرّية.

*عن صفحة أساس-ميديا