لقد تركت زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان انطباعاً سلبياً فاق التوقّعات. إذ أكّدت الزيارة ما كان مؤكداً لجهة أنّ الحل للأزمة اللبنانية مؤجّل وهو رهن ببدء حكومة حسان دياب بالاصلاحات الهيكلية الضرورية والتي يخطئ الظن من يعتبر أنّها اصلاحات مالية واقتصادية وحسب ولا صلة للسياسة بها. بل إنّ الجانب السياسي فيها هو الأهم، لأنّ هذه الاصلاحات تستهدف بنى إدارية وقطاعات تعتبر واشنطن أنّ حزب الله يستفيد منها في تمويله. وهو ما تحدث عنه دايفد شنكر مراراً عبر التأكيد أنّ الفساد في لبنان مصدر تمويل لحزب الله.
إذاً فإنّ أصل الأزمة اللبنانية سياسي بامتياز، وبالتالي فإنّ بداية الحل هي في إحداث تغيير سياسي في لبنان. لأنّ الحكومة الحالية التي يتحكّم حزب الله بقراراتها غير قادرة على البت بالإصلاحات الضرورية والسير قدماً بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأنها مكبلة بالشروط السياسية التي يضعها الحزب على العملية الإصلاحية وعلى المفاوضات مع الصندوق.
صحيح أنّ الأمين العام لحزب الله عاد وقَبِل بشروع الحكومة اللبنانية بالتفاوض مع "صندوق النقد الدولي" بعد أن كان نائبه الشيخ قاسم قد رفض ذلك. لكنّ قبوله هذا كان مشروطاً ولاعتبارات سياسية لأنّ الحزب يعتبر الصندوق أداة بيد الولايات المتحدة الأميركية وبالتالي فهو غير مستعد لتسليم رقبته له. والأحد رفض الشيخ قاسم أن يشترط الصندوق على لبنان البدء بالاصلاحات أولاً قبل الشروع في مساعدة لبنان! وذلك كلّه بالرغم من أن اتفاق الحكومة اللبنانية مع الصندوق إياه على برنامج انقاذي هو الطريق الوحيد نحو الخروج من الأزمة. وهو ما قاله الوزير لودريان من قصر الصنوبر في بيروت إذ أكّد أن لا بدائل عن الصندوق لحل المعضلة المالية والاقتصادية خصوصاً أن "سيدر" بات مرتبطاً به. وبذلك يكون الزائر الفرنسي قد وضع نصائح السيّد نصرالله للحكومة بالتفكير بخيارات أخرى غير التعاون مع "النقد الدولي" في خانة الأوهام!
لذلك فإنّه لا يتوقّع انفراج قريب للوضع اللبناني أقلّه قبل الخريف المقبل أو حتى قبل مطلع العام المقبل وذلك حتى تنتهي مفاعيل الانتخابات الرئاسية الأميركية سواء فاز دونالد ترامب بولاية ثانية أو لا. فالجميع يتنظر تاريخ 3 توفمبر، وخصوصاً إيران وحزب الله اللذين يتعرضان لضغوط أميركية ما فتئت تشتد على امتداد المنطقة، من العراق مروراً بسوريا فلبنان. وقد شهد الأسبوع الماضي أحداثاُ خطيرة في دلالاتها لاسيّما حادثة اعتراض مقاتلتين أميركيتين طائرة مدنية إيرانية في الأجواء السورية كانت في طريقها إلى بيروت. أي أنّ الأميركيين بخطوتهم تلك أرسلوا ثلاث رسائل دفعة واحدة، إلى إيران والنظام السوري وحزب الله، فالطائرة ايرانية ووجهتها لبنان واعتراضها تمّ في الأجواء السورية.
وليست هذه الحادثة الدليل الوحيد على التصعيد المتواصل في المواجهة بين واشنطن وطهران في المنطقة. فقد تجدّد الأسبوع الماضي القصف الإسرائيلي قرب دمشق حيث قتل عنصر من حزب الله ما سيحتّم على الحزب الردّ ومن لبنان وقف معادلة نصرالله السابقة. كذلك فقد حصل تبادل للرسائل النارية بين إيران وإسرائيل في منطقة الجولان.
كما كانت لافتة اللهجة التي تحدّث بها الخامنئي مع ضيفه رئيس الوزراء العراقي إذ قال له إننا سنردّ على مقتل ضيفك قاسم سليماني كما أشار إلى أنه يتوقع من العراقيين الالتزام بقرار البرلمان الداعي إلى إخراج القوات الأميركية من العراق. وهذه رسالة إيرانية مباشرة لمصطفى الكاظمي الذي سيكون عليه ترقّب المزيد من الضغط الإيراني عليه في الداخل العراقي.
من جهة أخرى فقد بدأ المبعوث الأميركي إلى إيران برايان هوك جولة في المنطقة بدأها من تونس لحشد التأييد لتمديد حظر الأسلحة عن إيران في مجلس الأمن، وهو ما قالت طهران أنها ستردّ عليه!
كلّ ذلك يدفع إلى اليقين أنّ الوضع اللبناني مقبلٌ إلى مزيد من التأزّم. والسؤال: هل يرتّب هذا الوضع تغيرّات في المشهد السياسي؟ ما صدر عن البطريرك بشارة الراعي يمكن عدّه تطوّراً سياسياً ولّدته الأزمة. وهذه إشارة سلبية للحزب الذي ما كان يعدّ سيّد بكركي خصماً له. وهو ما يعاكس قول نصرالله إن اشتداد الأزمة سيجعل اللبنانيين يلوذون به وبحلفائه فإذا بالبطريرك بما يمثّل يسلك طريقاً مختلفاً. لكن مع ذلك فغالب الظن أنّ الحزب لن يبدّل في استراتيجيته أيّا تكن كلفتها لا على جمهوره وحسب بل على اللبنانيين جميعاً وقد باتوا رهائن سياساته.. فهل يقبلون؟!