بسرعة تحوّلت التظاهرات الصاخبة في المدن الأميركية الكبرى إحتجاجاً على مقتل جورج فلويد الحدث العالمي الأبرز خلال الأيام العشرة الأخيرة. وتأتي هذه التظاهرات التي شهدت أعمال عنف غير مسبوقة منذ العام 1968 في توقيت أميركي بالغ الدقة، في ظلّ استمرار البلاد في مواجهة تفشّي فيروس كورونا، وقبل نحو خمسة أشهر على الإنتخابات الرئاسية المقرّرة في 3 تشرين الثاني المقبل والتي ينتظرها العالم من أقصاه إلى أقصاه. بالتالي فقد أرخت هذه الاحتجاجات بثقلها على السباق الرئاسي بين الرئيس الجمهوري دونالد ترامب ومنافسه الديموقراطي جو بايدن. وذلك في ظلّ التحدّيات الصحيّة والإقتصادية التي فرضها "كوفيد – 19" على الإدارة الأميركية الحالية إذ حوّل نحو 40 مليون أميركي عاطلين عن العمل.
لا شكّ أنّ انتشار صور آلاف الأميركيين يجوبون الشوارع مندّدين بسياسات الرئيس الجمهوري ومتهمين إياه بالعنصرية وتحفيز الانقسام في المجتمع كان أمراً مفرحاً لخصوم أميركا حول العالم - وخصوصاً الصين وإيران - الذين يراهنون على عدم قدرة ترامب على تجديد ولايته لمرّة ثانية. لقد أغراهم حتماً بلوغ التظاهرات عتبة البيت الأبيض ممّا اضطر سيّده للجوء إلى "المخبأ السرّي". وفعلاً سارعت إيران إلى التعليق على الاحتجاجات الأميركية إذ قال وزير خارجيتها جواد ظريف "إنّ مدن الولايات المتحدة الأميركية تتحول إلى ساحة للتوحّش ضد المتظاهرين ووسائل الإعلام"، متهماّ " أوروبا التي تستعجل في إطلاق الاحكام على المجتمعات غير الغربية بمواصلة صمتها المدوي هذه المرة". وهو ما استدعى ردّاً من وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو الذي غرّد قائلاً: "إيران تعدم المثليين وتقتل النساء بالحجارة وتبيد اليهود".
هذا التراشق الكلامي بين بومبيو وظريق يأتي في سياق المواجهة المحتدمة بين بلديهما بعد انسحاب ترامب من الإتفاق النووي مع إيران في العام 2018 والعودة إلى فرض العقوبات الأميركية عليها. فكلام ظريف لا ينمّ بالتأكيد عن حرص طهران على الديموقراطية ومحاربة العنصرية في العالم وهي المتهمة بالإفراط الشديد باستخدام القوة لقمع الاحتجاجات على أرضها، وقد أعلنت الأسبوع الماضي عن مقتل 230 شخصاً، بينهم ستّة رجال أمن، وجرح 2000 آخرين، في الاحتجاجات التي ضربت البلاد في تشرين الثاني الماضي. ما يهمّ الجمهورية الإسلامية بالدرجة الأولى عدم فوز ترامب بولاية ثانية، لأنّ أي رئيس ديموقراطي أيّا تكن سياسته الخارجية لن يكون، بنظرها، أكثر تشدداً معها من الرئيس الجمهوري الحالي الذي يواصل سياسة "الضغوط القصوى" عليها. لاسيّما أنّ الاتفاق النووي الذي وُقّع بين إيران ومجموعة الخمسة زائداً واحداً في العام 2015 كان بالنسبة لإدارة الرئيس الديموقراطي السابق باراك اوباما بمثابة إنجاز للديبلوماسية الأميركية. مع العلم أنّ السياسة الخارجية لبايدن غير واضحة المعالم بعد، بحسب أوساط متابعة في واشنطن، إذ أنّ فريق الأخير الذي وصفه ترامب بـ "الناعس" يفاوض فريق المرشّح الديموقراطي السابق بيرني سندرز للاتفاق على معالم السياسة الخارجية لمنافس ترامب.
لكن مهما اتّسمت السياسة الخارجية للمرشح الديموقراطي بالضبابية فهي، في نهاية الأمر، لن تكون أكثر تشدّداً مع إيران من السياسية الخارجية للإدارة الحالية، خصوصاً في عهد مايك بومبيو الذي يملك التأثير الأكبر في الملف الإيراني، بحسب الاوساط عينها. وكان الأخير قد أعرب الثلاثاء عن ثقته في تمديد حظر الأسلحة على إيران الذي ينتهي في تشرين الأول المقبل. كما أكّد أنّ "سياسة واشنطن تجاه طهران تعتمد على خطط بعيدة المدى لتغيير سلوك النظام الإيراني". وقال: "نستخدم قدرتنا الدبلوماسية لتوحيد العالم ضد الإرهاب الإيراني بطرق مختلفة"، مقراً بأن واشنطن أقنعت برلين بـ "اعلان حزب الله اللبناني منظمة إرهابية".
كلام بومبيو عن تغيير سلوك النظام الايراني يذكّر بالهدف الرئيسي لحملة ترامب الانتخابية في ما يخصّ الملف الايراني وهو ممارسة أقصى الضغوط على طهران لإجبارها على القبول بتعديل الاتفاق النووي "بما يشمل نفوذ إيران الإقليمي". هذا النفوذ الذي تسعى واشنطن إلى تقويضه لا عبر الحملات العسكرية، وقد وعد الرئيس الجمهوري قاعدته الإنتخابية بإنهاء "حروب أميركا إلى الأبد"، بل عن طريق العقوبات الإقتصادية المؤلمة سواء ضدّ إيران مباشرة أو الميليشيات والمنظمات الموالية لها في أرجاء المنطقة وخصوصاً في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
لقد بدأ ترامب فعلياً تنفيذ وعده الانتخابي بإعادة الجنود الأميركيين إلى بلادهم بعد توقيع إدارته اتفاق السلام مع حركة طالبان في شباط الماضي. وها هو المبعوث الأمريكي إلى أفغانستان يشير الثلاثاء إلى أن "الرئيس الأميركي قد يسرّع جدول انسحاب قواته من هذا البلد إذا سارت الأمور على ما يرام". كذلك من المقرّر عقد "محادثات إستراتيجية" بين واشنطن والحكومة العراقية الجديدة في العاشر من حزيران الجاري بهدف "وضع كافة جوانب العلاقة بين البلدين على طاولة الحوار"، بما في ذلك مستقبل وجود القوات الأميركية في بلاد الرافدين. علماً أنّ ترامب كان قد بدأ بسحب جنوده من سوريا من العام 2018. لكن في مقابل "استراتيجية الإخلاء" هذه، تستخدم واشنطن ورقة العقوبات الاقتصادية ضدّ خصومها بغية الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بعد خفض التزامها الأمني فيها.
والحال هذه فقد دخل "قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019" حيّز التنفيذ منتصف حزيران الجاري وهو يخوّل واشنطن فرض عقوبات على كبار المسؤولين والقادة العسكريين السوريين وكل من يدعم النظام السوري، كما يسمِّي روسيا وإيران، ويشمل الميليشيات الداعمة لحكومة بشار الأسد. عملياً يربط هذا القانون بين إعادة إعمار سوريا والحلّ السياسي فيها وفق مقتضيات مؤتمر جنيف الدولي. أي أنّه يمنع داعمي الأسد من تثمير انتصاراتهم العسكرية وتحويلها الى مكتسابات سياسية على المدى الطويل. أمّا في العراق فإنّ واشنطن تتلّمس فرص نجاح الحكومة الجديدة في إقامة حدّ مقبول من التوازن في سياساتها الداخلية والخارجية. والدليل أنّ بومبيو عندما هنأ مصطفى الكاظمي بتشكيل حكومته أعلن تمديد فترة إعفاء العراق من العقوبات المفروضة على ايران لمدّة 120 يوماً. أي أنّه أعطى فرصة مشروطة للحكومة العراقية فإذا لم تتلقفها واجهت عقوبات قاسية تطال بشكل اساسي استيراد الغاز والكهرباء من إيران. وفي لبنان، الذي أقرّ رئيس جمهوريته في تشرين الأوّل الماضي أنه يقع تحت الحصار المالي والعقوبات، فقد دفع اشتداد الأزمة الاقتصادية فيه حزب الله للسماح للحكومة الموالية له بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي تتمتّع اميركا بتأثير راجح في قراراته. لكنّه وجّه الحكومة في الوقت نفسه بـ "التوجه شرقاً" وصولاً إلى الصين، العدو الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يعكس تخبّط القيادة السياسية للحكومة في التعاطي مع الأزمة الخطيرة الواقعة.
كلّ ذلك يجعل ايران وحلفاءها يتطلّعون إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية لعلّها تأتي برئيس جديد إلى البيت الأبيض. لكن تحقّق رهانهم ليس بالسهولة التي يتمنونها. فصحيح أنّ تفشي "كورونا" والتداعيات الإقتصادية الكبيرة التي خلّفها في بلاد "العم سام"، ثمّ اندلاع الاحتجاجات عقب مقتل فلويد، كلّها أزمات تضغط على حملة ترامب الانتخابية. إلّا أن الرئيس الجمهوري لا يزال يراهن في معركته على الورقة الإقتصادية بعدما نجح في رفع معدّل النمو وخفض نسبة البطالة. وهو سارع الجمعة الماضي إلى تبشير الأميركيين بتراجع نسبة البطالة خلال شهر أيار، بينما أكّد أن بلاده تجاوزت إلى حدّ كبير وباء "كوفيد - 19"، بفضل قوة الإقتصاد الأميركي. كما يراهن ترامب، الذي نفّذ الكثير من وعود برنامجه الانتخابي، على وفاء قاعدته الانتخابية له خصوصاً أنّ "الولايات الريفية" التي تشكّل معقلاً لمناصيريه لم تقم ضدّه. كما أنّ رفعه شعار "النظام والقانون" يخوّله محاكاة النخب المدينية التي تشعر أن مصالحها مهدّدة من جرّاء أعمال العنف. هذا فضلاً عن أنّ منافسه بايدن طاعن في السن ويبحث عن نائب له يستطيع تحفيز حملته الانتخابية.
تنتظر المنطقة لا بل العالم بأسره تاريخ الثالث من تشرين الثاني المقبل، فهل سيحمل مفاجآت؟ والأهم كيف ستمرّ الأشهر الخمسة الفاصلة عن الإنتخابات الرئاسية الأميركية؟ هل ستهدّئ واشنطن اللعبة القاسية مع خصومها خصوصاً الصين وإيران، أم ستتشدّد أكثر معهما؟ الضغط الأميركي المتواصل على الصين يرجّح الخيار الثاني، حتى ولو كان تبادل الأسرى بين أميركا وإيران أعاد طرح إمكان استئناف المفاوضات بين الجانبين، إلّا أنّ ذلك دونه صعوبات كبيرة، خصوصاً أنّ ضيق الفترة الفاصلة عن 3 نوفمبر المقبل لا يسمح على الأرجح بحصول تغييرات كبرى في هذا الملف.
وفي المحصلة فإنّ المنطقة وخصوصاً لبنان أمام خمسة أشهر بالغة الصعوبة!
ايلي القصيفي