يعتقد كثيرون ان لبنان لم يكن يوما بلدا مستقلا وذات سيادة بالمعنى الحقيقي والفعلي. على اعتبار ان السيادة والاستقلال ليسا مجرد شعارات، وان الدولة لا تصبح سيدة قراراها بمجرد الاعلان عن قيام السلطة والمؤسسات بادارة واشراف من تم اختياره من اهلها. وهذا ما حصل طيلة عقود منذ اعلان الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1943، بتداول للسلطة عبر انتخاب رئيس للجمهورية كل ست سنوات، وانتخاب برلمان مدته اربع سنوات يقوم بدوره بمنح الثقة للحكومات المتعاقبة ومحاسبتها ومراقبة عملها، عملا بالنظام الديموقراطي البرلماني الذي اختاره اللبنانيون. حصل هذا بانتظام لأكثر من ثلاثين سنة، وهي طبعا مدة ليست بطويلة في عمر الدول والشعوب، الى ان اكتشف اللبنانيون فجأة ان مؤسساتهم هشة وبلدهم غير محصن، وليست لديه المناعة الكافية لمواجهة التحديات. والأهم انهم اكتشفوا انهم ليسوا اسياد انفسهم، وان سياسييهم ليسوا على قدر المسؤولية ولا أصحاب قرار مستقل كما ينبغي تجسيدا لاستقلال البلد وسيادته على اراضيه. لبنان الحرية، لبنان التنوع السياسي والتعدد الطوائفي والمذهبي، لبنان الغنى الثقافي والحضاري، لبنان بمسيحييه رواد النهضة العربية، لبنان الانفتاح على الغرب وملجأ المضطهدين والملاحقين في دنيا العرب، لبنان النموذج بالنسبة لكثيرين... غرق عام 1975 في أتون حرب أهلية دامت خمسة عشرة سنة.
حريته وتعدده وانفتاحه لم يشكلوا له حصنا منيعا في وجه ما يجري حوله، ولا في صد اطماع بعض من حوله. اكتشف اللبنانيون ان البنيان مهما كان جميلا ومريحا في داخله لا حيلة له في الثبات والازدهار والديمومة اذا لم يكن محاطا بجيران أخلاء وأحرار، ومتصالحين مع ذاتهم! اكتشف اللبنانيون انهم ارض سائبة ومستباحة، وان بلدهم لا حدود رسمية مرسمة له، لا مع سوريا التي لا تزال الى اليوم ترفض ترسيم الحدود، ولا مع اسرائيل بطبيعة الحال... لقد بدا لبنان في حقبة معينة، وبالأخص بين الخمسينيات والسبعينيات، بمثابة واحة للحرية والتعبير، ومختبر للصراع السياسي وللتفاعل الثقافي بين اللبنانيين وبينهم وبين العرب، وسط الضجيج القومي وقرقعة السلاح واستغلال لشعارات الثورة وتحرير فلسطين الجذابة. وبما ان انظمة الحكم المحيطة صاحبة تلك الشعارات كانت قلاع مقفلة من الداخل في وجه الحرية والانفتاح والتفاعل كان لا بد من تقويض تلك التجربة التي اسمها لبنان، الذي لا يحكمه نظام، منعا لانتقال العدوى...
فكانت الحرب العبثية التي دمرت لبنان وتركيبته ومزقت نسيجه الاجتماعي والثقافي، وحولت نموذج العيش المشترك الذي تغنى به بابا روما يوحنا بولس الثاني الى صراع مذهبي مقيت لا يزال يتفاعل ويزداد تعصبا وسوءا. فتحول الى ساحة "قتل فيها المسيحيون وقُتلوا وتقاتلوا فيما بينهم" على ما جاء في نصوص المجمع الكنسي الماروني الصادر عام 2006 والذي أجرى مراجعة نقدية للحرب. وكان لكل دولة او طرف خارجي واقليمي "نصيبه" فيها، اذ حاول كل منهم جر لبنان او بعضه الى جانبه عبر تبنيه واحد من الاحزاب والتنظيمات والميليشيات المسلحة على الأرض، واذا اقتضى الأمر السيطرة على قرار طائفة بكاملها ثم تأليبها على الأخرى، او تحريض طرف لبناني على الفلسطينيين والعكس صحيح. فيما كان تدمير المؤسسات ونهب المصارف وضرب الاقتصاد قائما على قدم وساق. فعراق صدام حسين دعم وسلح طرفا، وليبيا القذافي دعمت وسلحت أطرافا اخرى، واسرائيل تبنت فريقا وسهرت على تأجيج نار الفتنة بين مختلف الأفرقاء بالتنسيق الضمني مع بعض الأطراف القومية والعروبية. وهناك من تولى اغتيال وتصفية المثقفين ورجال الفكر. الا ان حصة الأسد في كل ما جرى كانت للجار الأسد الذي أحكم قبضته على السلطة السياسية، حكومة وبرلمان، وعلى الأمن والحدود والمعابر، وما زالت أصابعه تعبث الى اليوم في الداخل اللبناني! غير ان قلاع تلك الانظمة الشمولية التي تحول بعضها الى ما يشبه السجون ما لبثت ان انهارت هي الأخرى بفعل رياح الحرية والتغيير التي راحت تعصف من الخارج، وبفعل التطور التكنولوجي الذي اقتحم الداخل وشرعه على الخارج. انطلقت الشرارة من بيروت عام 2005 على اثر اغتيال رفيق الحريري، فاخرجت انتفاضة 14 آذار الجيش السوري من لبنان، ثم لحقتها انتفاضات "الربيع العربي" في 2011 من اجل الحرية والكرامة الانسانية لتهز كراسي الحكام من المحيط الى الخليج، بدءا بتونس ثم مصر وليبيا واليمن انتهاء بسوريا، واليوم في السودان والجزائر.
ووسط هذا الزلزال الذي غير وجه المنطقة ووجهتها تبدو مهمة اعادة بناء دول حرة ومجتمعات ديموقراطية تحترم الانسان أصعب بكثير من مهمة الثورة على ما كان قائما من اجل تغييره. وعادت فكرة المواطنة والدولة المدنية تشق طريقها في لبنان نحو تجديد ميثاق العيش معا ورفضا لهيمنة أمراء الطوائف والمذاهب والميليشيات الذين يتمترسون اليوم وراء طوائفهم ويمتهنون الفساد صفقات وحصص. ففيما تسعى دول وقوى الى اعادة عقارب الساعة الى الوراء عبر اللجوء الى خيار الدولة الدينية واستخدام ورقة الارهاب، يذكّر بعض المتنورين الدارسين للتاريخ بما طرحه قبل مئة سنة البطريرك الماروني الياس الحويك عندما سافر الى باريس عام 1919 ليطالب بقيام دولة لبنان الكبير على أساس "الوطنية السياسية لا الدينية" لأن ما كان يفكر به ليسا وطنا للموارنة كما كان يحبذ الفرنسيون، وانما بلد نموذجي يعيش فيه معا أبناء الطوائف المسيحية والاسلامية الذين سكنوا في جبل لبنان او لجأوا اليه هربا من الاضطهاد! ولاحقا، وبعد ان اصبح لبنان دولة مستقلة قائمة على التعدد السياسي والطائفي، انطلاقا من ميثاق 1943 الذي ارتكز على تفاهم ماروني-سني، انبرى الامام الشيعي محمد مهدي شمس الدين في ثمانينيات القرن الماضي الى طرح الدولة المدنية كصيغة حل للبنان المركب والمتعدد الطوائف. وقد كرر رأيه القاطع والقائل بان الشيعة لا يمكن الا ان يكونوا جزءا اساسيا مكونا لمجتمعهم، وان لا يخترعوا لطائفتهم ادوارا خاصة بها او من خارج الحدود!
لبنان لا وجود له اذا خارج صيغة العيش المشترك، واذا لم يكن نموذجا لصيغة العيش معا. لا معنى لوجوده اذا لم يكن تعدديا، سياسيا وطائفيا وثقافيا. ولكي يحافظ على وجوده ودوره ومستقبله عليه ان يعود ويستلهم الماضي ورواده، من الحويك الى شمس الدين، ومن بطرس البستاني الى ايراهيم اليازجي الى احمد فارس الشدياق وجبران خليل جبران، والى بشارة الخوري ورياض الصلح. هؤلاء رواد النهضة العربية وليس دعاة تقوقع او حكم الاقليات انطلقوا من مواقعهم الروحية والطائفية والسياسية والثقافية الى رحاب الوطن الأوسع. والتعدد يعني ان يتشارك الجميع من دون استثناء في هذه الصيغة، وليس الطوائف الكبرى او المميزة، ويتم تهميش الطوائف الصغرى او المغبونة او المعتبرة أقلية. المسيحيون نجحوا في تأسيس واقامة دولة لبنان لانهم كانوا اصحاب نظرة شمولية ودعاة نهضة، ما مكنهم من ايجاد موطىء قدم للبنان بين الامم. لم يعتبروا يوما انهم ليسوا جزءا اساسيا من هذا الشرق العربي، فلم يحاولوا قط اقامة حلف يجمع الاقليات و"الصغار" للاستقواء بهم، ولا فتشوا عن حماية لدى "الكبار". لا بل على العكس كانوا دائما، كما كان لبنان، في طليعة قضايا المشرق العربي، ساعين الى المساهمة في تغزيز دوره وحل مشاكله والتوفيق بين جيرانه العرب. لذلك، لا يمكن ان يذهب هدرا ما حققه "الربيع العربي" للشعوب التي انتفضت من اجل انتزاع الحرية واستعادة الكرامة. ولبنان الحر بحكم تركيبته وتنوعه وموقعه لا يمكنه ان يستعيد سيادته وسلامه الداخلي من دون فضاء عربي حر، رحب، ديموقراطي ومتضامن، تحكمه المصلحة العربية بغض النظر عن ألوانه الطائفية والمذهبية وحدوده الجغرافية.