الميل إلى تكريس النكبات بحجّة وجود نكبات أكبر وأخطر صار كارثة. هذا الميل يكاد يصبح منهجاً دلّ عليه من دون مبالغة ذواء المعارضة اللبنانية عن تصدّر مهامّها في تعيين آليات البلد، وهي وجود احتلال إيراني سياسي – وعسكري، وهو الذواء الذي سبقه انكفاء عبَّر عن ذاته بصمت عميم ركنت إليه "القوى السيادية" على اختلاف مسمّياتها.
ما صدر عن هذه القوى لا يعبّر إلّا عن إرباك فاضح في مواجهة تطوّرات المنطقة: بدءاً من الاتفاق السعودي - الإيراني برعاية الصين وانتهاءً بزيارة الرئيس الايراني لسوريا وتشنيف آذانه بأنشودة "تحيّة المحور"، التي قالت في ما قالت إنّ سوريا الراهنة هي غيرها في ما مضى.
الإصرار على هذا الميل الرهيب دلّ عليه، على سبيل المثال لا الحصر، عدم ردّ رمز من رموز القوى السيادية عندما طلب منه "مرجع عربي" الرأي في ترشيح سليمان فرنجية.
البساطة السياسيّة
لا تخفّف الاستعادة التاريخية لأحداثٍ من وقع ما نزل بلبنان من أهوال وكوارث أضعفت مفهومَي الجمهورية ومعنى النظام البرلماني، بقدر ما توضح أنّ هذا اللبنان ما عاد نموذجاً منافساً لإسرائيل، ولا قدوة يتباهى بها العرب. فقد أصبح غير مرئي على رادار الاهتمامات العربية في أيّ حالٍ من الأحوال.
ليس عابراً على الإطلاق إقصاء لبنان عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في عمّان، وإن برّر ما برّره وزير الخارجية عندنا من هذر نَمّ عن بساطة سياسية لا تقدّم ولا تؤخّر في قطار انطلق ونحن خارجه.
في استعادة الرئيس السوري بشار الأسد لما يسمّى "الحضن العربي"، هناك من يقول ويتحدّث عن ازدراء وإهمال لتاريخ من العنف والهمجية اللذين نزلا بالمنطقة عموماً وبالشعب السوري خصوصاً. ما حلّ علينا وعلى السوريين لم يكن وقائع حصراً، بل تعدّاه لكي يكون عصفاً بَدّلَ كلّ شيء، وألغى كلّ ما هو ديمقراطي وتنوّع في إطار التعدّد.
حسناً، ليس مسؤولية أيّ لبناني أن يتدخّل في شؤون دولة أخرى، تحسّباً للتذرّع بتدخّل مضادّ في الشؤون اللبنانية. لكن ما حلّ ويحصل عندنا ينبغي له أن يرفع أخطاراً عندنا إلى أولويّات سياسية توجب بناء معارضة وطنية تتجاوز الحساسيّات الشخصية والمواضي الذاتية.
هذا لا يعني بحال من الأحوال إهمال المراجعات التاريخية للخيبات المتراكمة عموماً منذ عام 2005، وخصوصاً لمثيلاتها التي تكرّست إثر انتخابات 2009 وصولاً إلى التسوية المريرة التي أفضت إلى حلول "العونيّة" في قصر بعبدا.
الأخطار والسجالات
الخطر ما عاد يخفّفه ادّعاءات لبنانوية فينيقية من مثل "طائر الفينيق"، ولا "نحن قدّيسو هذا الشرق وشياطينه".
ما هو مقبل لبنان عليه، بعد كلّ ما خسره، يستدعي وعياً سياسياً جوهره الأوّلي أنّه ما عاد ممكناً هضم الخسارة في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحّة بدعوى محاصرة الحزب الذي يُحادثه ويفاوضُه كثر، في حين أنّ المطلوب من اللبنانيين وحدهم إنزال الهزيمة به عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. ومثل هذا لا يعني غير حرب أهلية الأرجح أنّ أغلبية لبنانية ما عادت تريدها لا من قريب ولا من بعيد.
أن يكون شهد لبنان مثل هذا التبديد، وأن يكون هناك من ينتظر موقفاً عربياً، في ظلّ قسوة لبنانية - لبنانية، فهذا لا يقود إلا إلى "التسليم بقضاء الله وقدره" ما دام من يدّعي اعتراضاً على هذا الحال لا يأبه حتى لصياغة بيان سياسي قادر إلى هذا الحدّ أو ذاك على بناء معارضة لبنانية تنطلق من قناعة لبنانية صرفة بوجوب ما صار احتلالاً.
كان المتقدّم على الدوام عزيز المنال، ذلك أنّ اللبنانيين ما توحّدوا يوماً على لبنانيّتهم بالقدر الذي فعلوه من أجل طوائفهم. الأصعب منهم كان في تكريس وتأليه "الزعماء". وكذلك قبول الفظاعة الحالية بما هي تعبير واضح عن تصدّع الاجتماع اللبناني وتذرّره لصالح الاجتماع الأهليّ.
في ظلّ واقع كهذا، يغدو لبنان مجدّداً أسير الاستقطاب وصندوقة بريد، لأنّه لا أحد فيه يملك لغة لبنانية عامّة، والكلّ متقوقع على ذاته وعلى لغته الأهلية. ومثل هذه الحال ما عادت تُطاق، ولن تنتج إلا خسارات صافية تُسقط كلّ شيء منذ عام 2005 إلى اليوم.
لبنان على هذا المثال يعني أنّه ما عاد جمهوريّة.
*عن صفحة أساس-ميديا