اختبر اللبنانيون ومنهم المسيحيون حالات مبعثرة صارت نهجاً: خضوع المرشّح الماروني إلى الرئاسة للجان فاحصة. كان تقديم هذا على ذاك مرهوناً بالأرجحيّة الخارجية التي تتحكّم بالبلد أهلاً ودولةً.
الترسيم وابتزاز المسيحيين
الرئاسة بمعناها العريض تحوّلت إلى ابتزاز للمسيحيين كلّهم وليس للمرشّح نفسه. على الدوام كان "الصراع العربي ـ الإسرائيلي" ممرّاً لاختبار المرشحين للرئاسة أمام اللجان الفاحصة. في المقابل، كان يُردُّ على حضور الكنيسة المارونية ودورها التاريخي العميق في صياغة دور لبنان، بمزيد من الابتزاز: رؤيا كل مرشح للصراع مع إسرائيل وموقفه منها، لابتزاز المسيحيين على معنى أشدّ وأقسى.
شيء من هذا يحدث اليوم. إذ يبلغ السباق على الرئاسة الأولى تعارضاً أخطره "حزب الله" وما يشترطه من مواصفات ما تزال حتى الساعة تهويميّة. وهناك شيء آخر يندرج في "العقلانية" السياسية التي ينبغي أن تروم واقعاً جيوبوليتيكياً ومتنه العلاقة مع الشرعية العربية، واستطراداً الشرعية الدولية. وبعد "الترسيم البحري" ما عاد ينفع الكلام عن جواسيس وعملاء و"شيعة السفارات". لقد انتهينا اليوم إلى وطنية لبنانية عامّة، وما عادت رهناً بهذه الجماعة أو تلك.
صار "الترسيم" أمناً ودبلوماسية. قدّم بطاقة تعريف جديدة للبنان، بعدما انهار ما انهار. أكثر من ذلك، أصبح الترسيم ضمانة لبقاء لبنان وحظوظ ارتياده آفاقاً مُستقبليّة. أمن إسرائيل الذي سعت إليه بالدم والحروب بات في الأمم المتحدة.
التصعيد الشيعي
ما فعله حزب الله كان خارج المتوقَّع. أعطى إسرائيل ما لم يفكّر أحدٌ حتى في الأحلام الوردية أن يفعله. الرئيس بشير الجميّل بما له وعليه ما جرؤ على ذلك. لقاء نهاريا العاصف والغاضب يقول أكثر من ذلك بكثير. الأقوياء في الآتي من سياق، هم رسّامو "الجيوبوليتيك"، أي حزب الله الذي قال جهاراً ما يقوله في الخفاء: إذا كان للسُنّة فضل تحصيل الاستقلال من بريطانيا على الضدّ من فرنسا، وإذا كان للموارنة فضل العلاقة مع الحداثة والعرب، فإنّ للشيعية السياسية القدرة اليوم على صوغ الجغرافيا السياسية للبنان بعد "تحرير" لعام 2000 وترسيم الحدود في 2022. قال الحزب ذلك بكُلّ جلافة، وأحياناً كثيرة خارج المعقول. لكنّ في ذلك كلّه شيئاً ممّا سمّاه سيغموند فرويد الإعلاء أو التصعيد (sublimation). والمفهوم هذا الذي تعود أصوله إلى فريدريك نيتشه، يصف عمليّة يُصار من خلالها إلى توجيه الوعي السياسي نحو وظائف تتجاوز "المعقوليّة" إلى كونها "ما فوق سامية" يمجّدها الاجتماع الأهليّ.
ما عادت "مؤامرات إسرائيل" تبرّر "أيّام القتل العادي"، (عنوان كتاب للباحث وضّاح شرارة عن الاغتيالات في لبنان). لكن القَتل اليوم صار مُكلفاً. وتَجَنُّبه يعني عودةً إلى اللجان الفاحصة للرؤساء. وهي لم تغب يوماً. كانت تستظلّ. والفيء الذي التجأت إليه ما كان يستُر تدخّلاً في شؤون اللبنانيين أهلاً وجماعات.
فحص الرؤساء
خضع كلّ مرشّحي رئاسة الجمهورية الموارنة منذ العام 1943 للجنة فاحصة مؤلّفة من غالبية القوى السياسية، وأيضاً من دوائر القرار العربية ودوائر القرار الخارجية.
انتُخب بشارة الخوري عام 1943 لأنّه تفرّد في الوسط الماروني. وبدل أن يطالب ببقاء الانتداب الفرنسي للحفاظ على مكتسبات مسيحية، طالب مع أقلّية مسلمة باستقلال لبنان، وشدّد على أنّ لبنان ذو وجه عربي.
في العام 1952 كانت اللجنة الفاحصة ترتكز على فلسطين وليس الانتداب الفرنسي. أتى فخامة الملك كميل شمعون على قاعدة أنّه فتى العروبة الأغر، وهو دافع عن قضيّة فلسطين أربع سنوات بعد قيام إسرائيل وتهجير الفلسطينيين.
في العام 1958 أتى فؤاد شهاب على يد لجنة فاحصة عنوانها الرئيس جمال عبد الناصر وعروبته الجماهيرية الكاسحة. تفاهم عبد الناصر مع الولايات المتحدة، فانتخب فؤاد شهاب. وفي 1964 كان هذا التفاهم لا يزال قائماً بين ناصر والولايات المتحدة، فكان أن سلّم شهاب الرئاسة إلى شارل الحلو.
وفي العام 1970 كانت اللجنة الفاحصة عنوانها "اتفاق القاهرة". هذا الاتفاق دعمه الجيش والمرشّحون المسيحيون الأساسيون: كميل شمعون وبيار الجميل. لكن ريمون إدّه لم يوافق على الاتفاق. لذا لم يخضع للجنة فاحصة ولم ينتخب رئيسًا.
مع اندلاع الحرب انتقلت اللجنة الفاحصة إلى الرئيس السوري حافظ الأسد، وأصبح مَن يواليه يصل حُكماً إلى اللجنة الفاحصة. لكن بشير الجميّل الذي علّق دور اللجنة الفاحصة التقليدية وانتجب رئيسًا في العام 1982 وفي خضمّ الحرب الأهلية، اغتيل لأنه غير قليلًا قواعد اللعبة. ولم يستطع أن يستكمل مشروعه. بعد ذاك، عادت اللجنة الفاحصة إلى الأسد الأب ثمّ الابن حتى العام 2007 مع خروج إميل لحّود من قصر بعبدا.
عام 2008 تشكّلت لجنة فاحصة على أثر هجمات واعتداءات 7 أيار. هكذا أتى رئيس جمهورية يتفاهم مع 14 آذار آنذاك، ويقول لقواها على معنى من المعاني: أنا حميت مخيّم 14 آذار في العام 2005. لكن ميشال سليمان نفسه، لم يستطع عندما كان قائدًا للجيش أن يمنع حزب الله من اجتياح بيروت والجبل.
اليوم اللجنة الفاحصة هي حزب الله، بوصفها مكوِّناً إيرانياً يطلب من أيّ مرشّح ماروني أن يضمن المصالح الاقتصادية لإسرائيل ويوالي إيران.
تبدّلت اللجنة الفاحصة، من الانتداب الفرنسي إلى قضية فلسطين، ثمّ عبد الناصر، فاتفاق القاهرة ووهج منظّمة التحرير، وصولاً إلى حافظ الأسد، فإيران اليوم.
حزب الله هو الذي يفحص المرشّحين الموارنة اليوم. وحسن نصر الله هو رئيس اللجنة الفاحصة، ويطلب من المرشحين أن يضمنوا ما اعتبره هو إنجازاً له: ضمان استثمار إسرائيل، الذي هو بالتعريف استثمار اقتصادي.
بعكس كلّ الرؤساء الذين أتوا منذ العام 1943 حتى اليوم، سيكون الرئيس المُقبل على شاكلة موشي ديان: عينُ كفيفة عن شيء، وأُخرى تتبصّر بكلّ شيء.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا