لا ينطوي القول أنّ تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي هو بمثابة زلزال سياسي في لبنان على أي مبالغة. لقد خلطت خطوة الحريري أوراق كلّ القوى اللبنانية بما في ذلك حزب الله الفاعل الرئيسي للنفوذ الإيراني في لبنان، هذا النفوذ الذي قال الحريري الإثنين أنّ لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظلّه.
فإذا كان النظام السياسي بعد الحرب قد تلقّى ضربة قاسمة باغتيال رفيق الحريري فإنّ انسحاب نجله سعد من الحياة السياسية قد فتح مستقبل هذا النظام على أسئلة كبرى وعمّق التوازن الكارثي في لبنان بين القديم الذي لا يسقط والجديد الذي لا يولد.
إنّ خطوة الحريري لا تدفع إلى مراجعة سياساته منذ العام 2005 وحسب بل إلى مراجعة كلّ تلك المرحلة ومآلاتها، وتحديداً لناحية بلوغ النفوذ الإيراني في لبنان أقصاه بينما وضع اتفاق الطائف لبنان في قلب نظام المصلحة العربية. خصوصاً أنّ مفاعيل هذا النفوذ ما عادت محصورة داخل الحدود بل وصلت إلى حدود المملكة العربية السعودية عبر تدخّل حزب الله في الصراع اليمني. ناهيك عن تدخّلاته في سوريا والعراق.
هذا الاختلال بات يعبّر عن عطب بنيوي في الدولة اللبنانية. فهو بات يهدّد هذه الدولة في وجودها لا من الناحية الإقتصادية وحسب بل أيضاً من الناحية السياسيّة لجهة دورها ضمن المنظومة العربية، إذ أنّ إسقاط عروبتها يعني سقوطها حكماً في كنف المحور الإيراني.
هذا هو عمق المشكلة اللبنانية الراهنة التي تتجاوز أزمات الحريري المتنوّعة. أي أنّه لا تفسير لانسحاب الحريري من الحياة السياسيّة سوى أنّ توسّع نفوذ إيران في لبنان لا يحتمل وجود الحريرية بأبعادها العربية بل يريدها معزولة عن هذه الأبعاد.
فإذا كانت قوى سياسية أخرى تستطيع التعايش مع النفوذ الإيراني فإنّ الحريرية بعروبتها التكوينية لا يمكنها ذلك، وإلّا كانت بحكم المتواطئة على نفسها وعلى عروبة لبنان. ولاسيّما بعدما استشاط الحزب في أذيّة الدول العربية الخليجية فعلاً وقولاً، وبعدما جرّبت الحريرية الفصل بين سياسات الحزب الإقليمية وبين مشاركته على مائدة السلطة، وقد باءت كلّ محاولاتها بالفشل. بل استظلّ الحزب هذه المشاركة للتمادي أكثر في سياساته الإقليمية العدائية للدول الخليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
في الواقع إنّ أي محاولة للفصل بين الحريرية وبين مظلتّها العربية هي محاولة لوضعها في كنف حزب الله. وهذا ما حاول الحزب القيام به أكثر من مرّة، لأنّه يعلم أنّ لا إمكان لإعادة التوازن إلى الحياة السياسية والوطنية اللبنانية إلّا من خلال إعادة إنتاج القواعد الوطنية للمظلّة العربية للبنان. غير ذلك فإنّ حزب الله سيستمرّ في توسيع نفوذه داخل لبنان جاعلاً إيّاه قاعدة رئيسية للأجندات الإيرانية في المنطقة.
لكنّ ذلك كلّه سيرتدّ في نهاية الأمر على الحزب نفسه، لأنّه لن يستطيع حكم البلد بمفرده. فما لم يستطعه النظام السوري في لبنان ولاسيّما بعد وفاة حافظ الأسد لن يستطيعه الحزب ولو استعمل كلّ الأدوات بين يديه.
فتركيبة لبنان الإجتماعية والطائفية والثقافية عصيّة على غلبة مجموعة سياسية/طائفية على المجموعات الأخرى. فحتّى المسيحيين الذين أقصوا عن نظام ما بعد الحرب عادوا وثأروا لإقصائهم ابتداءً من بيان المطارنة الموارنة الشهير في أيلول 2000، والذي تأسّست عليه دينامية سياسيّة تمثلّت بلقاء قرنة شهوان وأوصلت لاحقاً إلى تحرير لبنان من الوصاية السورية في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهذا مسار أسّست له بشكل أساسي مقاطعة المسيحيين لانتخابات العام 1992. وهنا تكمن الأهمية الرئيسية لتلك المقاطعة.
مع العلم أنّ المسيحيين خرجوا من الحرب بلا غطاء عربي أو دولي ومع ذلك استطاعوا التأثير جديّاً في المعادلة الجديدة فكيف الحال مع الطائفة السنيّة بامتداداتها العربية والدولية، وكلّ ذلك في لحظة إنهيار اقتصادي كارثي لا يمكن الخروج منه من دون دعم عربيّ ودولي.
وفي النهاية هناك سؤال: إذا كانت الحريرية قد علّلت تعليق نشاطها السياسي باستحالة التغيير في ظلّ النفوذ الإيراني، فهل تستطيع قوى أخرى إحداث التغيير في ظلّ هذا النفوذ، وعبر الإنتخابات؟!؟