لا تزال في جعبة الشخصية السياسية اللبنانية البارزة ، التي تعيش حاليا في الخارج بعيدة عن الاضواء، معطيات تواكب الاحداث في لبنان حتى يومنا هذا. وكان لا بد من اختيار من هذه المعطيات ما يتصل بالحلقات الاربعة السابقة التي مرّت وتركزت على علاقات الرئيس الراحل رفيق الحريري مع النظام السوري سواء أيام الرئيس حافظ الاسد أو أيام وريثه بشار. وحلقة اليوم تواكب علاقات نجل الرئيس الشهيد، ليس فقط مع دمشق، بل أيضا مع الامين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله، منذ أن حمل الحريري الراية بعد اغتيال والده عام 2005. فما هو الجديد الذي لدى الشخصية اللبنانية حول هذه العلاقات؟
وفق معلومات هذه الشخصية ان الرئيس رفيق الحريري، خلال المرحلة الممتدة ما بين العاميّن 2000 و2005، حاول ان يمد جسورا مع الرئيس السوري الجديد. ومن بين هذه الجسور دفع رجال الاعمال الى الاستثمار في سوريا، ومن بين هؤلاء الرجال نجل الحريري سعد الذي زار دمشق في تلك الفترة بطلب من والده ليكون في عداد هؤلاء الساعين وراء فرص الاستثمار في سوريا.
ثم كانت الاطلالة التالية لسعد الحريري على سوريا بعد رحيل والده بمبادرة من العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي لم يكن ليسلّم بانسلاخ هذا البلد عن الاسرة العربية على رغم هول جريمة إغتيال رفيق الحريري. وقد كتب الكثير عن مبادرة الملك عبد الله في السابع من تشرين الاول عام 2009 عندما وصل الى العاصمة السورية فيما كان سعد الحريري رئيسا مكلفا تشكيل الحكومة الجديدة بعد إحراز قوى 14 آذار انتصارا باهرا في الانتخابات النيابية في ذلك العام. وفي رأي الشخصية اللبنانية ان جوهر مبادرة الملك عبد الله كان رأب الصدع في العلاقات بين لبنان وسوريا عموما وبين الاسد والحريري خصوصا إثر جريمة 14 شباط عام 2005. ولتحقيق هذا الهدف، جرى الاتفاق على أن يقوم سعد الحريري الذي صار رئيسا للحكومة وذلك بعد زيارته لدمشق في 19 كانون الاول 2009 بإطلالة إعلامية عبر مقابلة من ثلاث حلقات على صفحات جريدة "الشرق الاوسط" يعلن خلالها ان النظام السوري لا علاقة له بإغتيال والده. ومما جاء في الحلقة الاولى من ذلك الحديث : "عندما تكون الأمور واضحة بين الدولتين لا تكون هناك مشكلات، فعدم الوضوح هو الذي يخلق الالتباسات. ونحن اليوم، مع الرئيس بشار الأسد، مرتاحون إلى الوضوح القائم في العلاقة... للمحكمة مسارها الذي لا علاقة له باتهامات سياسية كانت متسرعة... الاتهام كان سياسيا، وانتهينا منه".
ما قاله الرئيس الحريري لصحيفة "الشرق الاوسط"، لم تليه أية حلقات أخرى. وعزت الشخصية اللبنانية السبب الى ما دار اولا ما بين الحريري وبين الامين العام ل"حزب الله" في اللقاء الذي جمعهما في مقر الاخير في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد زيارة الحريري لدمشق، ثم التطورات المستجدة في العلاقات الاميركية-الايرانية. ففي اللقاء في الضاحية الجنوبية، تقول الشخصية اللبنانية بادر الحريري الى طرح إقتراح على نصرالله ان هناك مخرجا لكي يجنّب الحزب الاتهام بإرتكاب جريمة إغتيال رفيق الحريري عام 2005 ويتضمن إعلان "حزب الله" ان هناك عناصر غير منضبطة ضالعة في الجريمة. لكن نصرالله رفض بصورة حاسمة هذا المخرج. وهو عبّر عن ذلك لاحقا وبصورة علانية ان الحزب لن يسلم أيا من عناصره الى المحكمة الخاصة ولو بعد مئات الاعوام.
أما ما يتعلق بالعلاقات الاميركية-الايرانية، فقد دخلت طورا جديدا بعد وصول الرئيس الاميركي باراك اوباما الى البيت الابيض عام 2009 وفق برنامج عمل فاز على أساسه في الانتخابات ويتضمن سحب القوات الاميركية من العراق. ولفتت الشخصية اللبنانية الى ان واشنطن وجدت ان أقصر الطرق لتنفيذ وعد الانسحاب من العراق يكون عبر تفاهم أميركي-أيراني نظرا للنفوذ الذي تتمتع به طهران في العراق بعد سقوط الرئيس صدام حسين عام 2003.
وتتابع الشخصية اللبنانية: بعد ظهور حجم النفوذ الايراني المتزايد في العراق وتاليا في لبنان، لم يعد ممكنا الاتكال فقط على تطبيع العلاقات بين بيروت ودمشق. وعندما جاء الموقف السلبي من الامين العام ل"حزب الله" فيما يتصل بالمحكمة الدولية، خفف الحريري من إندفاعته نحو دمشق وأكتفى بما قاله ل"الشرق الاوسط". لكن العام الذي أمضاه الحريري في السراي، أي 2010، كان عاما خاليا من أي إنجاز يتيح للحريري ان يتكل عليه. لذلك، وما أن أطل العام 2011 حتى نفذ تحالف 8 آذار-عون الانقلاب الشهير الذي جعل الحريري يدخل الى اللقاء مع الرئيس اوباما رئيسا لمجلس الوزراء اللبناني ليخرج من اللقاء رئيسا سابقا للحكومة. وفي هذا السياق، كان اوباما هو المبادر الى إبلاغ ضيفه انه صار رئيسا سابقا لحكومة بلاده!
وأشارت الشخصية اللبنانية الى ان مرحلة ترطيب العلاقات بين الحريري وبين دمشق بعد إغتيال والده شهدت إنفتاحا إستمر اعواما وخلالها كانت هناك لقاءات تجري بين شخصيتيّن أمنيتيّن بارزتيّن لبنانية وسورية والاولى محسوبة مباشرة على الحريري. كما جرت لقاءات بين شخصية سياسية بارزة في فريق الحريري مع اركان الحكم في دمشق وقد إستمرت هذه اللقاءات الى ما بعد إقصاء الحريري عن رئاسة الحكومة.
وتتابع الشخصية اللبنانية فتقول: منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، كان الاتجاه العام للاحداث في سوريا ولبنان هو إنهاء نفوذ السنّة في هذيّن البلديّن. وقد تعزز هذا الاتجاه، بعد إنتصار ثورة الامام الخميني في إيران عام 1979، وإسقاط حكم الرئيس العراقي السابق صدّام حسين عام 2003. وعندما وصل رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة في نهاية العام 1992، كان بعض الرجال الاقوياء في طائفته إما قد فارق الحياة إغتيالا كحال الرئيس رشيد كرامي، وإما إنتقل الى المنفى كحال الرئيس صائب سلام. وبدا لوهلة ان حكم أقوياء السنّة عاد الى سابق عهده الى لبنان مع وصول الحريري الى سدة الرئاسة الثالثة. لكن هذا الانطباع كان صالحا خلال فترة حافظ الاسد وعلاقاته الوثيقة بالعاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز. لكن، وبعد غياب حافظ الاسد عن ممارسة الحكم بدءا من العام 1998 بدأت محنة الحريري التي بلغت الذروة بإغتياله عام 2005 بتدبير وقرار مشترك إيراني-سوري.
لم يتغيّر شيء طوال المسيرة السياسية للرئيس سعد الحريري بدءا من العام 2005 ولغاية اليوم. وبدا وكأن هناك تسليم غربي عموما وأميركي خصوصا مع تفهّم عربي بأن النفوذ السنيّ في لبنان لم يعد كما كان الحال قبل نصف قرن. لكن غياب هذا النفوذ كلّف لبنان ولا يزال ثمنا باهظا بسبب فقدان الصلة مع العالم العربي عموما والخليجي خصوصا، أي إنقطاع هذا البلد عن أهم مصادر القوة التي منحته الازدهار منذ زمن قيام لبنان الكبير قبل قرن.
في إعتقاد الشخصية اللبنانية ان المحنة الي واجهها الرئيس سعد الحريري ولا يزال هي انه مهما حاول إداء المرونة في التعامل مع الواقع اللبناني من زاوية ميزان القوى الذي يحكم لبنان فإنه لن يصل الى تثبيت قوته. فالقرار الحقيقي لدى سيد هذا الميزان، أي "حزب الله"، هو إنهاء كليا مرحلة السنيّ القوي، وآخرهم كان رفيق الحريري. وكشفت عن نقاش سبق إبتعاد سعد الحريري عن السرايا ما أوصل الدكتور حسان دياب اليها، وفي هذا النقاش جرى إسداء "نصيحة" من الرئيس نبيه بري للحريري ان يتجاوز مسألة حجم الثقة لتكليفه والذي وجد فيه الاخير رسالة رفض لتسميته، كي لا يتكرر مع حصل مع والده عام 1998. لكن حصل ما حصل، وأصبح سعد الحريري في صفوف المعارضة التي تتلمس طريقها حاليا. فهل تغيّرت الظروف التي أبعدت الحريري مرتيّن عن القصر الحكومي الاولى عام 2011 والثانية عام 2019 ؟
أمر مهم تلفت اليه الشخصية اللبنانية هو ما يسعى اليه فعليا "حزب الله" على ما مستوى السلطة، وهذا سيكون محور الحلقة المقبلة.
احمد عياش - النهار