سأفترض افتراضًا أنّ أبطال السياسة اللبنانيّة، أهل الطبقة الحاكمة، يسلّمون لبنان عملانيًّا وموضوعيًّا إلى الصلب، بفعل سياساتهم الصغيرة والرعناء التي تنحر مفهوم الدولة وتؤمن فقط بمنطق الطائفيّة والغلبة والاستئثار والصفقة والنهب. أعرف أنّ هذا الواقع ليس جديدًا، بل متقادم. لكنّه بات يتّخذ في الآونة الأخيرة حدًّا غير مسبوق، يتقاطع بخطرٍ شديدٍ للغاية، مع المخطّطات والمشاريع التي تُحضَّر للجغرافيا السياسيّة في المنطقة العربيّة، وللبنان من ضمنها طبعًا.
سأفترض افتراضًا - أدبيًّا فحسب - أنّ تسليم لبنان إلى الصلب، يستدعي عندي مشهد تسليم المسيح إلى قَتَلَته، ومشهد القبلة التي قيل إنّ تلميذه يهوذا طبعها على خدّه، كعلامةٍ رمزيّةٍ على إمرار عمليّة تسليم الرجل إلى أعدائه وتجسيد فعل الخيانة.
لا أكون أطلب شيئًا مستحيلًا إذا دعوتُ أهل العقل والحرّيّة والكرامة الوطنيّة، الذين يُفترَض أنْ يكونوا من فرسان الوفاء والصدق والأمانة، إلى التمرّد على عمليّة تسليم لبنان (الافتراضيّة!) الجارية، بهدف تفكيك مشروع الصَّلب المنتظر.
كيف؟ ليس بغسل الأيدي من دم هذا الصدّيق، بل بوقف التكاذب الخطير والتقاسم الخطير، وبرفض المساومة السرّيّة والعلنيّة على وجود كيان لبنان، وعلى لبنان الدولة والدستور، وإنْ يكنْ ذلك بالخروج على التسوية المريضة القائمة.
بصرخةٍ واعيةٍ، عاليةٍ ومتماسكةٍ وجوهريّة، أدعو إلى وقفٍ نهائيٍّ مُدَوٍّ للحلول القائمة على تَبادُل القُبَل المسمومة بين أطراف التسوية.
ستُتّهم هذه الدعوة بالسذاجة والانفعال وقصر النظر وبـ"الكلام الشعريّ" (انتبِهوا إلى الازدراء الذي يُنظَر فيه إلى الشعر والرؤيا الشعرية!)، لأنّها تضع الجمهوريّة أمام الطريق المسدود، ولا تقترح حلًّا منطقيًّا.
مش مظبوط هذا الكلام، لسببَين واضحَين، الأوّل لأنّ الجمهوريّة هي من زمان أمام طريقٍ مسدود، يتمّ القفز فوقه، والتعامي عنه، والتحايل عليه، وتدوير زواياه. والثاني لأنّي بالفعل أبادر إلى اقتراح حلٍّ موضوعيٍّ هو الآتي، يقوم على إقرار دستور الدولة المدنيّة العلمانيّة، الذي يصون دولة الحقّ والقانون والحرّيّة والعدالة والمساواة والديموقراطيّة، ولا يدعو - بتبسيطٍ ديكتاتوريّ - إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة على طريقة اتّفاق الطائف، بل يضع الطوائف والمذاهب، والطائفيّة السياسيّة، ومؤسساتها، في الموضع القانونيّ والدستوريّ الذي تستحقّه، ويليق بها، وذلك بما لا ينال من مدنيّة الدولة، ولا يفضي إلى تقاسمها كأنّها ثوب المسيح القتيل.
بناءً عليه، إذا كان ثمّة مَن لا يزال يعنيه وجود لبنان، ككيان، وكدولة، فإنّي أدعوه بحرارةٍ وعقلانيّة إلى المساهمة في وقف كلّ المحاولات الجارية لترتيب لقاءاتٍ وجلساتٍ قائمةٍ على تبويس اللحى وعلى تبادل القُبَل الكريهة، لأنّها ستكون، على الصعيد اللبنانيّ، شبيهةً بالدور الذي اضطلع به التلميذ يهوذا، وموازيةً للنتيجة المترتّبة على ذلك الدور المشؤوم: صلب المسيح – صلب لبنان.
بناءً عليه: لن أقبّل المسيح!
عقل العويط - النهار