صار يستولي على اللبنانيين ميلٌ وكأنّه عادة. العادة ولجت الحياة السياسية منذ تسعينيّات القرن الماضي. أسوأ ما فيها سياسياً القبول بـ "التسويات" الخارجية كأنّها قدرٌ لا رادّ له. هذه العادة بلغت مبلغاً من التردّي عندما صارت إيماناً نختصّ به، على الرغم ممّا عندنا من فائض مؤمنين وملحدين وعلمانيّين: قبول كلّ ما هو آتٍ من الخارج واعتبار الهزيمة قدراً.
هكذا حصل منذ التمديد للرئيس الياس الهراوي. وافقنا على تجاوز الدستور. الاعتراض السياسي مع إميل لحّود لم يؤتِ نفعاً. سكتنا على 7 أيار فكان أن تكرّرت مخالفة الدستور على مستويَين. في الأوّل وصل إلى القصر الجمهوري ميشال سليمان. في الثاني كان قعر الانحدار وتكرار ماضينا فكان صعود ميشال عون إلى بعبدا بشروط أسوأ أتَت على كلّ الحياة السياسية عندنا.
تاريخ يتكرّر
المثال الأكمل المُستقى من الراهن هو إعلان الجامعة العربية قبول عودة سوريا. تعاطى اللبنانيون "السياديون" والمتمسّكون باتفاق الطائف مع هذا القرار كأنّنا محكومون بـ "الهزيمة". القبول بعودة سوريا إلى الجامعة العربية أو عدمه لا يعني تبدّلاً في موازين الداخل ولا في قوّة توازنه.
في الأصل لم يثبت يوماً أنّ للبنان القدرة على معاداة سوريا، فأيّ توتّر كان يحصل مع الأخيرة وهي خارج الحدود يُكلّفنا وقف الصادرات لمجرّد "إنزال خشبة" على الحدود. وهذا ما ولّد "حساسيّة لبنانية - سورية"، على ما سمّاها الاستثنائي الراحل فؤاد بطرس.
منذ عام 1943 لم يقتنع كلّ من أقام في الحكم بدمشق أنّ لبنان هو دولة مستقلّة. اُعتُدِيَ على سيادتنا مراراً وتكراراً بألف ذريعة. المبرّرات الأشدّ وطأة كانت محاولة نقل لبنان إلى مصافّ "دول المواجهة". قبل هذه المرحلة لم يتوقّف تهريب السلاح. وكان من بين اللبنانيين من يعتبر ذلك دعماً، لكن تبيّن لاحقاً أنّ ذلك كان نصرةً على لبنان الدولة واللبنانيين.
هيمنة السلاح
يشير نوّاب الثنائي على الدوام إلى أنّ "الهدف" من استهداف خياراتهم السياسية، وغالبها يُفرَض قسراً على اللبنانيين، هو إعادة الجماعة الأهلية التي يمثّلونها إلى ما كانت عليه من حرمان وضعف قبل انطلاقة حركة المحرومين في سبعينيّات القرن المنصرم، وقبل انطلاقة تنظيم "المستضعفون" في الأرض. يُغذّي الثنائي هاتين السرديّتين من مَعين مذهبي على الضدّ من الدولة الجامعة.
قد يسمع البعض هذا الكلام ويتأثّر به، وربّما لا يعيرهُ انتباهاً أصلاً. لكنّ اللبنانيين محكومون بالانتباه إلى مثل هذه اللغة وهذا الخطاب. ذلك أنّ الثنائي، الذي طرفه الأرجح "حزب الله"، يقولان من دون أيّ شائبة إنّ عملهما هو تمكين من يمثّلون وما يمثّلون من حكم البلد والتحكّم به. وفي الطريق إلى هذا الهدف أدّى قادة هذه الجماعة أدوارهم وواجبهم، وبالتالي ما عاد يصلح توجيه أيّ اتّهام إليهما.
الحقّ أنّ ما يجهر به الثنائي الأهلي - الطائفي هو نفسه ما يعنيه الأمين العامّ للحزب في إطلالاته المتلفزة من تهديد ووعيد يمكن أن يقوله بكثير من الهدوء والتروّي: سواء أكان الكلام موجّهاً إلى الحكومات أم إلى القوى الأخرى التي تهابه وتريد السلطة لا الجمهورية، والتحكّم لا الحكم الجمهوري - البرلماني.
اللبنانيون محكومون أيضاً بتذكّر مواضي الأمين العامّ للحزب منذ "حكومة المقاومة" وصولاً إلى اليوم. وهم محكومون أيضاً بالتنبّه إلى أنّ مشاريع الغلبة، وعلى الدوام، فجّرت البلد. اللبنانيون يعرفون بالحسّ واليقين أنّ حكم البلد ديمقراطياً حتى اللحظة مستحيل، لأنّ من يملك السلاح هو الحزب وحلفاؤه، وأمّا ما عدا ذلك من حديث عن المشاركة والوحدة والمناصفة فكلام لا يساوي اللعاب الذي سال لقوله.
لبنانان لا يتشابهان
الأرجح أنّ "حزب الله" الذي بدا في الأعوام الأخيرة أبعد من البلد وأوسع من جغرافيّته صار مجبراً على العودة إلى ما بقي من لبنان، في ظلّ التطوّرات منذ الاتفاق السعودي - الإيراني وصولاً إلى قرار إعادة سوريا للجامعة العربية.
بين المدنيين منّا وبين "حزب الله" أكثر من أوانٍ مستطرقة. وكلانا يختلفان بل يتناقضان بنيوياً. هذا لا يتعلّق حصراً بالمواقف والسياسات. نحن نعرف أكثر من غيرنا وأحسن منهم أنّ البلد مستفرَد ومتوحِّد. أمّا الحزب فيشعر أنّه كبير جدّاً بالبلد وعليه، وأنّه من هذا البلد سيستمرّ في مخاطبة العالم من أجل أجندة لا تمتّ إلى لبنان بصِلة.
بيننا فارقٌ هائل. نحن نعرف أنّه ما عاد من مقعد للسياسة اللبنانية على طائرة ستحلّق في الجوّ، و/ أو على متن سفينة ستمخر عباب البحر. في المقابل فإنّ الحزب يعرف أنّ له مستمعين كثراً في الشرق والغرب وسيحلّلون كلّ ما يقوله جهاراً أو تشفيراً وألغازاً.
نحن نتكلّم عن أحكام الجغرافيا والتاريخ اللبنانيَّين. الحزب يخطب متفلّتاً من هذه الأحكام. ذرابة لسانه أوسع من لبنان، لهذا لا تضيق به الجغرافيا كما تضيق بنا. أزماتنا على قياس لبنان وفي حدوده، وأمّا هو فصانع أزمات تتجاوز لبنان إلى الإقليم والدول.
لبنان بالنسبة إلينا هو وطن. عند الحزب هو ميدان وساحة للانتصار على الداخل والخارج في آنٍ معاً. هذه الفوارق هي الحكَم بيننا في تعيين قدرة النظام السياسي على الاستمرار والبقاء في حدود لبنان.
الاتفاق السعودي - الإيراني ثمّ الدخول العربي العريض إلى سوريا ساعدا اللبنانيين، على وجه من الوجوه، في إعادة اختصام "حزب الله" في السياسة التي تعني أنّ انتظار المتغيّرات لا يعني شيئاً. وبات على اللبنانيين تعيين قدرتهم السياسية في صناعة الأمل. ذلك أنّ قدرة الحزب السياسية المسلّحة ذاهبة من دون وعي وتفكير إلى الاصطدام مع كلّ شيء منهار. وهذه المنظمة تعرف أنّ القوة العارية لا تستطيع التعايش طويلاً مع خسارة المستقبل. فليس من قوى، حتى أعتى الدكتاتوريات، توهّمت أنّ الانتصار مآلها النهائي.
النهوض أو خسارة الأمل
"حزب الله" الذي يرى لنفسه مساحة أكبر من البلد يُصرّ على عدم عقد تسويات مع المكوّنات اللبنانية. لكنّ مقتل سياسته هو النهوض الوطني العامّ والإعلان أنّ قناعات اللبنانيين في الجمهورية ليست طوع بنانه، وأنّه عندما يكون المستقبل مدلهمّاً إلى هذا الحدّ، فإنّ الالتحاق بالعالم يكون بالسياسة لا بالسلاح.
هذا وحده يلجم الانهيار السياسي بما هو سبب أصلي للموت الاقتصادي والسياسي الذي وقعنا عليه. التاريخ حرفة تستلزم مهرةً لكتابته وصناعته.
*عن صفحة أساس-ميديا