خلال السنوات الماضية، وفي عزّ الإنقسام بين 8 و14 آذار كانت تصدر أصوات مسيحية تدعو إلى "وحدة المسيحيين". ثمّ بدأت هذه الدعوة تسلك طريقها إلى الترجمة العملية بدءاً باجتماع بكركي بين "القيادات المارونية الأربع"، لتتوالى بعدها الاجتماعات المارونية في الصرح البطريركي مرّة لبحث قانون الانتخابات ومرّة أخرى للتداول في الشأن الإقتصادي؛ وصولاً إلى "تفاهم معراب" الذي قال ركناه أنّه ذروة هذه الوحدة حتّى لو كان مضمونه "السرّي" يفترض استبعاد المسيحيين الآخرين عن جنّة الحكم، إلّا من كان منهم في كنف الثنائية المارونية.
ما هي إلّا أشهر قليلة حتّى "انفخت الدفّ وتفرّق العشاق"، وبات ركنا هذه الثنائية يكيل كلّ منهما الاتهامات للآخر، لكنّهما وبالرغم من خلافهما لم يفترقا سياسياً إلى حدود الطلاق، إذ لا يزال كلّ منهما يحتاج الآخر ولو كان خصمه.
وإذا كانت الممارسة السياسية في لبنان تحتمل مثل هذه المناورات، إلّا أنّ هذه الممارسة أصبحت لاغية للسياسة، لأنّ المصالح المشتركة بين ركني الثنائية المسيحية باتت جزءاً رئيسياً من انسداد الأفق السياسي في البلد، أي انعدام القدرة على انتاج حلول للأزمة الخطيرة.
لقد التقى حزبا القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وما يزالان على نظرية "الرئيس القوي" سواء كان ميشال عون أو سواه لاحقاً. ولم يحصل ذلك غصباً عن أو ضدّاً بالتكتلات السياسية الطائفية الأخرى التي تريد كذلك تطبيق هذه النظرية على نفسها، وبالأخصّ الثنائية الشيعية التي ترتاح لمثل هذه النظرية ما دامت أقوى هذه التكتلات حتّى الآن.
لكنّ التقاء القوات والتيار حصل قبل الإنهيار، وبالرغم من اختلافهما لاحقاً غير أنّ أيّاً منهما ولاسيما القوات اللبنانية لم يتخلّ عن هذه النظرية بعد الإنهيار، حتّى لو كانت سياسات الرئيس عون باتت سبباً رئيسياً في الأزمة الحكومية أو عائقاً رئيسياً أمام حلّها، بينما مسؤولية رئيس الجمهورية أن يحول دون وقوع الأزمة لأنّه رئيس الدولة المؤتمن على تطبيق الدستور ومنع الفراغ في المؤسسات الدستورية.
والحال هذه فإنّ عدم مطالبة الغالبية السياسيّة المسيحية باستقالة الرئيس عون الذي يربط سياساته وخطابه بتأمين "حقوق المسيحيين" في النظام، لا يحصر المسؤولية الأدبية والسياسية عن الأزمة بالعهد وإنما يجعلها على عاتق هذه الغالبية المسيحية التي ما تزال تنظر إلى موقع رئاسة الجمهورية نظرة طائفية ضيقة وتبعاً لمصالحها السياسيّة. وذلك بالرغم من المؤشرات الخطيرة على بدء تحوّل الأزمة الحكومية في ظلّ الإنهيار المتفاقم إلى أزمة طائفية بالنظر إلى استعصاء اتفاق الرئيس عون مع ثلاثة رؤساء مكلفّين. وهو استعصاء يخرج عن أي منطق دستوري ووطني مهما حاول خبراء الدستور في القصر الجمهوري اختراع الحجج واللعب على الكلام.
لكنّ ذلك كلّه لم يحرّك هواجس الغالبية السياسية المسيحية وكأنها غير معنية إلّا بمصالحها السياسيّة والانتخابية، لكنّها تغفل عن أنّ تغطيتها لسياسات العهد هي، في نهاية الأمر، ضدّ مصالحها وضدّ مصالح المسيحيين واللبنانيين.
والواقع أنّ "وحدة المسيحيين" لم تتحقّق سياسياً إلّا حول تغطية عهد الرئيس ميشال عون من خلال عدم المطالبة الجدّية باستقالته التي باتت تأخذ صفة الضرورة الوطنية لسببين متداخلين: أوّلهما أنّ الرئيس يسعى لتحقيق مكاسب فريقه السياسي على حساب بناء سلطة تنفيذية تتصدّى للأزمة الوجودية كما وصفها الفرنسيون. وثانيهما أنّ الرئيس بعدما غطّى قتال حزب الله في سوريا عندما كان رئيساً لأكبر كتلة نيابية مسيحية، هو يغطّي الآن خطوات الحزب لاستقدام ناقلات نفط إيرانية خارج أي أطر قانونية وإدارية للدولة، وهذا خرق فاضح لسيادة الدولة ودستورها الذي أقسم عليه الرئيس.
بالتالي فإنّ وحدة غالبية المسيحيين حول الرئيس على الرغم من اختلافهم على بقية الأمور، أصبحت سبباً رئيساً في انسداد الأفق السياسي في البلد وتعميق الأزمة. وإذا كانوا يظنّون أنّهم بتغطية سياسات الرئيس يدافعون عن موقع رئاسة الجمهورية فهم بالعكس يطيحون بهذا الموقع وبدوره وفق النصّ الدستوري.
والأخطر أنّهم واعون لما يفعلون لأنّهم مدركون لمصالحهم القريبة عشيّة الانتخابات النيابية والرئاسية حتّى لو احترق لبنان. فمرّة جديدة هم دون السياسة ودون الحسّ الوطني ومتساوون في ذلك مع كل المتخاذلين في الطوائف الأخرى.
والآن عرفنا حول ماذا "يتوحّد" المسيحيون؟