مفتي ”التربية الوطنيّة“ - أيمن جزيني

مفتي ”التربية الوطنيّة“ - أيمن جزيني
السبت 3 يونيو, 2023

 

لنفترض أنّ لدى الكتلة المسيحية السياسية أو قرينتها السُنّيّة رجل دين وسياسة كالمفتي الجعفري أحمد قبلان يخاطب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بالطريقة التي خاطبه فيها. هو مُفتٍ لا يكفّ عن افتتاح مطالعته بـ"التربية الوطنية" وينهيها بعبارات "مسلّحة" بقوّة الثنائي والدم المسفوح على "طريق التحرير والكرامة والعزّة". وبرهنة ذلك هي وطن متصدّع ومنفيّ من العالم مع انهيار معيشي هو الرابع في العالم.

قبلان يُملي ضمانات الدولة

بالنسبة للمفتي ضمانة الدولة هي شخص رئيس مجلس النواب نبيه برّي. لم يحدث في تاريخ العالم أن كان شخص ما هو ضمانة عيش دولة وديمومتها. كان برّي حاز صفة "ضمانة التشريع" منذ ردح من الزمن، إضافة إلى التهويل بمآلات الأمور في البلد "إذا ما حُذفت الهاء" من اسمه. وزيادةً في "الضمانات" الرهيبة للبنان وجب تسليم الحرب والسلم إلى الأمين العام للحزب حصراً.

الكلام الذي وجّهه المفتي قبلان إلى البطريرك الراعي، كان يمكن للمرء أن يهمله. لكنّ تصريحاته المبثوثة والموزّعة والمتوعّدة ليست من التصريحات التي تمرّ مرور الكرام على اللبنانيين. ذلك أنّ معظم اللبنانيين يعرفون أنّ مثل هذه البيانات تشير إلى ما لا تحمد عقباه وإلى الآتي على البلد. فالمفتي قبلان يستند في مواقفه إلى "ثنائي" مسلّح ومرهوب الجانب.

عمليّاً، يحار المرء وهو يستمع إلى بيان المفتي قبلان في حلّ ألغاز مصدره في هذه اللحظة التي يمرّ بها البلد: هل ما يقوله هو كلمة سرّ من "الثنائي" معاً أم من أحدهما؟ في طبيعة الحال، مثل هذا التصريح هو انعكاس مباشر لطبيعة التوجّهات السياسية لكلا الفريقين "حركة أمل" و"حزب الله" اللذين يتحكّمان بالمشهد العامّ في لبنان.

الثنائي.. إرادةٌ لا تُرَدّ

الحسّاس في هذا الشطر الأسوأ من الحياة السياسية، هو أن لا أحد يساجل "الثنائي" في ما يمتلك من حقّ إقفال البرلمان أو تشريع أبوابه لانتخاب رئيس جمهورية. وبأيّ منطق يهدّد سلم البلد وأهله ويفرض على كلّ جماعة أن تختار من بينها لتمثيلها في النظام السياسي، وتبعاً لِما يريده الثنائي ذاته.

منذ عام 2005 يوجد طرف يتعرّض للتهديدات جمهوراً ونُخَباً وقادة ومسؤولين رسميين، وطرف آخر يُطلق التهديدات وينفّذها. الأوّل هو كلّ الذين يدعمون الدولة الناجزة الاستقلال والشرعية الدولية، والثاني هو فريق الممانعة عموماً، وعلى وجه الدقّة ثلاثيّ "المناورات" العسكرية الذي صار يحتكر تمثيل المحور: حركة أمل وحزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي. الطرف الأول لا نيّة ولا موارد عنده لإحداث أيّ توتّر لأنّه ليس لديه إلا المستقبل. والثاني يملك السلاح والقوّة والقدرة على تحطيم أبنية الدولة كلّها، ومستقبله هو ماضيه.

لبنان .. الغلبة بدلاً من الدولة

والحال هذه فإنّ الوضع في لبنان يمكن توصيفه على النحو التالي: فريق مسلّح من اللبنانيين يريد الإطاحة بالنظام السياسي، لكنّه يتحيّن اللحظة الأنسب له، ما دام "5 أيار" جديد لا يلوح في الأفق. يشارك هذا الطرف في السلطة من أعلى إلى أسفل، ومن داخلها إلى خارجها، لكن ما هو أسوأ أنّه يستسهل الانسحاب من النظام ساعة يشاء تاركاً البلد للفراغ الدستوري، بعدما أغرقه في الفراغ السياسي. وهذه سيرته المديدة مع اللبنانيين.

أمّا الطرف الآخر فيستعجل تفعيل المؤسّسات الدستورية والبرلمانية، وهمّه تثبيت الاستقرار وتغليب قيم ومعنى الاستقرار الأهلي والعيش المشترك. وهو فعليّاً في الحكم، لكنّه لا يستطيع أن يتحكّم بشؤون البلاد كما غريمه، ولا يملك أيضاً من أدوات الحكم إلا يسيرها. وأقصى ما عنده في السياسة هو المطالبة ببرلمان فاعل وحكومة مُنتجة قادرة على إصلاح الداخل والعلاقة مع الخارج.

غرابات السياسة اللبنانيّة

على الرغم من هذا المشهد الفاقع، بات من غرابات السياسة اللبنانية وفضائحها أنّ أهل الفريق المسلّح والحاكم والمتحكّم هو الذي يحذّر من الفتنة على لسان المفتي قبلان. عليه يبرز سؤال ساذج برسم من ما يزال يتمتّع بالنزاهة السياسية في البلد: إذا كان "الثنائي" مستعدّاً ومتخوّفاً من فتنة تهيّئ لها إسرائيل، فلماذا يهدّد شركاءه في الوطن بدءاً من المناورات العسكرية، ومروراً بخطابَيْ النائبين محمد رعد وحسن فضل الله، ووصولاً إلى مخاطبة البطريرك الراعي بهذه اللغة؟ ولماذا يخاطبهم بوجوب الإذعان؟

أليس من الموجبات الأولى لدرء الفتنة أن يسعى الدارىء إلى التسوية مع الخصوم السياسيين لتصليب الجمهورية أهلاً وأبنية حكم؟ الآن، وبعد كلام المفتي قبلان، هل ثمّة مكان بعد لكلام سياسي؟ كثرة كاثرة من اللبنانيين ما عادت مقتنعة بوجود حيّز للسياسة. المؤسف أنّ هذه الكثرة هي من فريق المتحكّمين الذين يعتقدون أنّ بإمكانهم حكم البلد وإلى الأبد. هذا الفريق ما عاد مستعدّاً للاعتراف بأبسط البدائه وأكثرها فجاجة: أي موت لبنان.

الفجور السياسيّ

ثمّة فجور سياسي ما عاد يُحتمل لأنّ أصحابه لم يعودوا يقيمون لأيّ منطق وزناً. فجور يريد من المقهورين بكلّ شيء الإذعان حتى الخنوع.

فجور يريد منّا أن نعلن بأريحيّة أنّ سبب موت الدولة هو تمسّكنا بها وبأبنيتها الشرعية الدستورية والعسكرية والأمنيّة.

أقلّ الحقّ أن يُقال إنّ الصراخ المصمّ عن الخيانة والتآمر صار جريمة تُضاف إلى تاريخ الجرائم المتراكمة. فالرسالة اليوم واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

لقد أفاض فريق الممانعة في اتّهام الجميع بالتآمر والسعي إلى محاصرة المقاومة وطعنها بظهرها وتحقيق ما عجز عنه العدوّ الإسرائيلي في حرب تموز. مَن مِن اللبنانيين سبق أن طعن المقاومة؟ ما الذي عجز عنه هذا العدوّ؟ ضرب البلد؟ لقد برع في تدميره. تحويل اللبنانيين من مواطنين إلى نازحين؟ نجح حدّ الذهول. ما الذي فشل فيه هذا العدوّ؟ مرّة جديدة قد يكون اللبنانيون حقل اختبار.

*عن صفحة أساس-ميديا