لا يني الساسة اللبنانيون يكرّرون "نداءات الوطنية" في مخاطبة اللبنانيين. المهول أنّهم يطالبونهم بـ "فرادة وطنية" مستحيلة التحقّق في دولة محكومة من خطرين: المراجع الروحية، وأمراء الحرب. الطوائف في لبنان فصيحة جدّاً وهي "تُعهّر" السياسة من أجل "تقديس" الهواجس. في الأساس يستحيل جمع "المُقدّس" مع "المدنّس"، أي الدين مع السياسة. وهذا بالطبع لا يروم الدعوة إلى إقرار نظام علماني هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. والاثنان، المراجع الروحية والساسة، يقدّمان لرعاياهما "شعبوية" لا تخاطب غير الغرائز البدائية.
إذاً هذه الإشكالية التي تطرح سؤالاً: كيف تحمي دولة لبنان نفسها؟ وكيف للبنان أن ينهض من الانهيار المريع الذي بلغه؟ الجواب عند المراجع الروحيّة كلّها ومعهم الساسة: إنّ صريخ الطوائف وضوضاءها هو الجواب. وجواب كهذا لا يني يتكرّر على الدوام جاعلاً من حياة اللبنانيين أقصر، ومن سني عمر الطوائف أطول. وهذا ما يجعل من الطوائف فصيحة ومن لبنان وطناً أبكم.
بهذا المعنى جاءت أمس عظة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي ناشد القاضي طارق البيطار مواصلة عمله لكشف الحقيقة، وقوله: "ما يؤسفنا أنّ فقدان النصاب يطال أيضاً اجتماعات الهيئات القضائية، وهذا غير مقبول، فللقضاء آليّته وتراتبيّته". هذه المرّة الثانية التي يُخطىء فيها البطريرك، إذ أقام في المرّة السابقة قدّاساً لروح الضحايا جاعلاً من قضية تفجير المرفأ "قضية مسيحية" راحت تتراكم فوق غيرها من القضايا الطائفية. بينما لا تزال دار الإفتاء تنتظر جواباً على رغبتها بالمشاركة في قدّاس ضحايا انفجار المرفأ حتى اليوم. وليستقيم النقاش ينبغي الفرار من المواربة، ذلك أنّ التفجير المُرعب عاشه المسيحيون وكأنّه استهداف لهم حصراً. حتى إنّ بعض المقولات التي راجت آنذاك كانت من طبيعة مقيتة: كيف حمت الإهراءات غرب بيروت فيما ارتدّ عصف الانفجار على شرقها؟
قضية التحقيق في تفجير المرفأ ضرورة وطنية وأخلاقية وسياسية. ولا أحد يمكنه النقاش في صوابيّة وضرورة إنجاز "هذا الواجب". والحقّ أنّ كلام البطريرك من حيث الشكل قاطع قي صحّته ودقّته. إنّما فلنسأل أنفسنا ولو لمرّة واحدة: لماذا يرتاب البطريرك بالقضاء حيناً كما حصل في الكلام عن مواقع حاكم المصرف المركزي وقائدي الجيش السابق والحالي، وحتى قضائية في ما يتعلّق بحادثة قبرشمون، ويمدحه في أحايين أخرى؟ وكيف تستقيم والحال هذه الدعوة إلى تآزر اللبنانيين ضدّ الأخطار التي تلفّ البلد كلّه؟
أن يقبع اللبنانيون على قلق بانتظار مفاعيل عظة البطريرك، فليس ممّا يدعو إلى المفخرة والعظمة لأنّ إقلاقهم ودفعهم إلى الخوف وحزم الحقائب لن يكونا مصدر منعة وقوّة. والدولة وأبنيتها الدستورية والسياسية والقضائية لا تنهض بالخطابات. الدولة تُحمى أوّلاً وأخيراً حين يتوافق اللبنانيون على أنّها دولتهم ووطنهم، وهذا ما يبدو أنّه غير متوفّر الآن. وإذا البطريرك أًعطي مجد لبنان فهذا لا يشمل القضاء حتماً.
الصورة على المقلب الثاني: ماذا لو أطل علينا غداً مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان ليسعف المدّعي العامّ التمييزي غسان عويدات في مواجهة البيطار وحرب الصلاحيّات، خصوصاً أنّ الأخير أطلّ على اللبنانيين بصياغة قرار على الضد من البيطار بآية من القرآن وأخرى من الإنجيل. لقد بالغ القاضي المدني حين أصدر حكمه بموجب آيتين من كتب الدين، بدل أن يصدره بموجب القانون، وبدل أن يفتتحه باسم الشعب اللبناني. لكنه خطأ معطوف ومضاف إليه خطأ البطريرك الأصلي. فحين دخلت بكركي إلى العدلية أجبرت عويدات على اللغة نفسها، ويرد لها الزيارة.
المشهد الثالث: لاقي المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان هذا الاحتدام بخطبة عصماء، وهو ذرب اللسان، خصوصاً في التأجيج الطائفي والتهديدات المستمرّة، ليطلب "وقف التحقيق" في ظلّ شخص من طبيعة طارق البيطار الذي استفاق على "عضلاته" وقوّته بعد لقاء الوفد القضائي الفرنسي، إضافة إلى تواصله مع السفيرة الأميركية بعد "نومٍ عميقٍ" استغرق 13 شهراً. وهذه كلّها عناصر شعبوية تلائم أيّما ملاءمة خطاب "الشيعية السياسية" التي تريد لبنان أرضاً مفتوحة لـ"مقاومة أبدية" لا يعرف أحد وجهتها، ولا تريد قراءة أكلافها وأثمانها على البلد أوّلاً وثانياً... وعاشراً. أساساً المفتي قبلان ليس بحاجة إلى من يقرأ عنوان مقرّه الذي منه يمنح شهادات في الوطنية، وعكسها الخيانة. فقد سارع إلى اعتبار "البيطار مشروع فتنة ويجب محاكمته".
في المبدأ، لا أحد يمنع أو يستطيع منع مفوّهي الطوائف وقادتها من إطلاق خطاباتهم الإشكاليّة. لكنّ عدم القدرة هذه تجد نفسها بالمعادل السياسي أنّه يستحيل بناء دولة في ظلّ هذه المرجعيّات وهؤلاء السياسيين. وليس من حسن الفطن أن يباشر هؤلاء آراءهم من "الغيتوات الطائفية" التي صارت مناخات فكرية للبنان الذي صار فيه من ينشد الفصل بدلاً من الوصل.
لا حديث في لبنان إلّا عن التعطيل. ويجتهد اللبنانيون في تقدير من يكون الطرف المعطِّل، أو الذي يناسبه التعطيل أكثر من غيره. لكنّ هذا الاجتهاد والبحث لا يغيّران في الوقائع القائمة وصلابتها. ذلك أنّ حدوداً صفيقة وصمّاء تفصل بين الطوائف والقوى. الطوائف اللبنانية ما عادت تقبل الرأي الآخر. والكلام عن الشراكة موقوف على تشنّجات الكتل الطائفية. وما يحصل فعليّاً ليس تعطيلاً للمؤسّسات فقط، بل هو تعطيل متمادٍ للعيش المشترك ولنهائية الكيان وعروبته.
على هذا الواقع صار هناك ميزان دقيق على ظهر هياكل الدولة التي لن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام بل أكثر من خطوة إلى الوراء.