أقام عمرو دياب الدنيا في بيروت، ولم يُقعدها إلى الآن. أكثر من خمسة عشر ألف مواطن لبناني وسائح في لبنان، ارتدوا الأبيض كما تمنّى عليهم الفنّان المصري، وأمّوا المكان من كلّ حدب وصوب.
أضاؤوا ليل بيروت، وأزاحوا عن كاهل المدينة تعباً عمره سنوات وانهياراً ماليّاً وتخبّطاً سياسياً... وفراغاً قاتلاً ملأه عمرو دياب غناءً ورقصاً وفرحاً.
ساعتان من الفرح، ومن الحياة، خلّفتا ساعات من النكد اللبناني، ومن الأسئلة التي لا تنفكّ تُطرح حتى لحظة كتابة المقال: من هو عمرو دياب؟ هل بهذه الحفلات ينهض البلد؟ من أين للّبنانيين في بلدهم المنهار هذا ثمن التذاكر؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي ما تزال تقضّ مضاجعنا منذ عام 1948، تاريخ نكبة فلسطين، أي قبل الحفل بخمسة وسبعين عاماً.
نجم من هذا الزمن
عمرو دياب فنّان مصري وملحّن وممثّل حاضر على الساحة الفنّية منذ عام 1983، بنجاح لافت ونجومية قلّ نظيرها. هو واحد من مشاهير العالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي على الأقلّ. ليس محمد عبد الوهاب، ولا عبد الحليم حافظ، ولا فريد الأطرش، كما سأل كثر. لكنّه عبد الوهاب عصره، وعندليب زمانه وفريد أيّامنا هذه. هو في صدارة الفنّانين وطليعتهم، سواء أحببته أم لا. نجم يرغب في الاستماع إليه والرقص على نغماته كثيرون وكثيرات. ولهم في ذلك الحقّ كلّ الحقّ. الدنيا أذواق، وليس لذائقة ما فيها أن تطغى على غيرها.
هذا في الشخصيّ، في الفنّان النجم. أمّا في الحفل كحفل، فقد كان ناجحاً نجاحاً باهراً، إذ أمّه الآلاف الذين يمّموا شطر بيروت من كلّ حدب وصوب، لابسين ما أوصاهم دياب نفسه بلبسه، فأقفلوا بأعدادهم الهائلة طرقات العاصمة والطرقات إليها ومنها. عادت بيروت، خلال الحفل، كما كانت دائماً وكما ستبقى إلى الأبد: مدينة تسهر حتى الصباح وتتمايل على ضفاف الأبيض المتوسط على أنغام راقصة، وتطرب لكلّ كلام حلو وجميل وحرّ. مدينة لا تنام. مدينة يضعها الفنّانون، كبارهم وصغارهم، نصب أعينهم، ولا تتحقّق لهم شهرة ونجومية من دونها. بيروت سطر إلزامي في السيرة الذاتية لكلّ فنان ونجم، ولا تكتمل سيرته بغيرها.
على طريق فلسطين
أمّا استنكار الفرح والرقص والعيش الحرّ والسهر والأنس والليل، فثقافة تحاول يائسةً السيطرة على مجتمعاتنا منذ نكبة. نكبة جرّت نكبات. ثقافة عمرها من عمر من أوصلونا إلى الدرك الذي نحن فيه، سياسيين ومثقّفين وفقهاء ورجال دين وأحزاباً وشرائع وقوانين. ممنوع علينا الفرح. ممنوع الطرب. ممنوعة الحياة... حتى تحرير فلسطين.
هكذا عشنا وفي ظلّ هذه الثقافة وُلدنا، ونرجو ألّا نموت وهي شغل مجتمعنا الشاغل. باسم تحرير فلسطين، حرّمت علينا الأحزاب والأنظمة العربية الحياة والفرح والرقص واللهو والصحافة والكتابة والمعارضة.
من شاء أن يفرح فليهاجر. فليرحل. نحن أمّة وشعوب فرحتها الوحيدة تكون عند تحرير فلسطين. حتى ذلك الوقت فلنقطّب حواجبنا أو نعقدها ولننزوِ ولا نخرج من بيوتنا ومن أحزاننا وممّا نحن فيه إلا لممارسة الطقوس الدينية أو تبجيل الحكّام... أو لدفن موتانا الذين أيضاً يجب أن يسلموا الروح حانقين غاضبين و"مكشّرين".
أين وُلد فنّانونا؟ هل كتبوا ولحّنوا وغنّوا على كوكب آخر ثمّ غزونا؟ ألسنا لبنانيين وعرباً، أهل شعر وموسيقى وهزج؟ ألسنا أهل كلمة؟ هل عُرفنا بغير الشعر؟ أليس الشعر كلاماً جميلاً مقفّى وملحّناً؟ أليس الشعر بحوراً وأوزاناً وقوافي؟ متى كان اللبنانيون يستنكرون الفرح؟ متى أصابتنا المصيبة هذه؟
ماذا حلّ بنا نحن اللبنانيين، والحديث هنا ليس عن سياسة أو اقتصاد أو أمن أو اجتماع. الحديث عن اللبناني البسيط، المواطن العاديّ، سليل الرحابنة وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وفيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين. أبناء جورج وسّوف وراغب علامة ووائل كفوري... واللائحة تطول.
الحديث عن أبناء المصيف والمشتى والتزلّج. أبناء البحر والشاطئ ورؤوس الجبال. أبناء الجنوب والقلب والبقاع والشمال. أهل الكلمة الطيّبة واللقمة الشهيّة والليل المفتوح على كلّ سهر، والجوّ الذي يختصّ بالنسيم العليل الذي يُفرح ويُطرب وينتشي الممسوس به، حتى إنّه قد يطيله عمراً.
ليس بالخبز وحده... ولا بالبندقية
ماذا نفعل إذا كنّا نعيش في فترة عصيبة سياسياً وأمنيّاً واجتماعياً وثقافياً؟ هل نلتزم بيوتنا في ظلّ ما يشبه الانهيار الاقتصادي؟ من قال إنّ الخروج من هذا الانهيار أو الوضع المالي السيّئ لا يكون بغير البكاء؟ من قال إنّ الفرح والرقص والموسيقى تعني تفاقم الأزمات؟
من قال إنّ فلسطين ستتحرّر بغير الكلمات الحرّة والقصائد الضاحكة والأفلام السينمائية بمختلف أنواعها والمسرحيّات...؟ من قال إنّنا سنخرج من أزمتنا هذه في لبنان من دون أن نفتح مطاعمنا وبحارنا وأنهارنا وأبواب السياحة على مصاريعها؟
أتتخيّلون لبنان واقفاً على مجده، والدنيا قاعدة لا تطرب ولا تهتزّ راقصةً ولا تصفّق لمقالة أو فيلم أو مسرح أو قصيدة؟
*عن صفحة أساس-ميديا