سقط "عهد العونيين الأقوياء" صريعاً على قوس العدل. السقوط المريع لـ "مديح القوّة" كان على يد قاضٍ لا يعرف السياسيين ولم يُرِد يوماً أن يعرفهم. أبعد من معنى القرار القضائي الذي اتّخذه جمال الحجار هناك دالّة حاسمة على معنى القضاء النزيه والمستقلّ.
القاضي الحجار الذي بذل جهوداً حثيثة لتجنّب الإعلام وما يزال، لم يكن يدرك يوماً أنّ اسمه وصفته سيصبحان سيرة "رجل شجاع" لم يتحصّن بغير القانون لطرد القاضية عون من السلك القضائي.
"رجلٌ تجرأ على العهد القوي"
القرار الذي اتّخذه المجلس التأديبي بالإجماع وبرئاسته وعضوية المستشارَين ميرنا بيضاء رئيسة محكمة استئناف صيدا وأيمن عويدات رئيس محكمة استئناف بيروت، أعلن بقصد أو عن عكسه، أنّ هناك أملاً باحتمال قيام دولة. بعث في المخيّلة معنى بناء الثقة بهذه الجمهورية.
جمال الحجار القادم من عالم طبّ الأسنان اقتلع "سوسة" كانت تنخر الجسم القضائي باستنسابية وانتقائية لا تُحتملان. درس الطبّ ثمّ ولج فضاء القانون ليحطّ على صرح القضاء عام 1992. ما بلغه عكَس سيرة أهليّة في بلدته شحيم بإقليم الخرّوب.
الشائع في هذه المنطقة على وجه الدقّة مقولة أهليّة منذ الرئيس الراحل كميل شمعون. وهي المقولة التي تصدر عن الأهل توجيهاً للأبناء والبنات "احصلوا على شهادة الحقوق أوّلاً ثمّ ما ترغبونه ثانياً". هذا ما فسّر على الدوام حضوراً قويّاً لأبناء إقليم الخروب في إدارات الدولة عبر امتحانات مجلس الخدمة المدنية، لا عبر الوساطات والاستزلام السياسي.
سيرةٌ أهلية على وزن الشفافية
على هذا السياق، دخل طبيب الأسنان الآتي من الجامعة اليسوعية إلى سلك القضاء. تنقّل بين محاكم عدّة. ما حازه مهنيّاً لم يكن يوماً بسبب من طائفته أو مذهبه. لا يعرفه أيٌّ من قادة الطائفة السُّنّية أو زعمائها. ابتعد عن الإعلام بجهد استثنائي يوم كفّ يد القاضي فادي صوّان عن ملفّ تفجير المرفأ. قرار إقصاء الأخير كان تعليله أنّ صوّان متضرّر من الانفجار، وبالتالي صار طرفاً في النزاع.
أقرانه وأصدقاؤه يعرّفون عنه بـ "الشجاع الذي لا يخاف غير الله والقانون وضميره". ما يحكم قراراته معايير الشفافيّة وجوهر "الصلاحيّات" القائمة على جدّية "استقلال القضاء" بما هو ضامن معنى الدولة قديمها وحديثها.
نزاهته حالت دون أن تشتمه القاضية غادة عون التي خرجت عن صوابها ووصفت الشعب اللبناني بـ "المجوي". زعمُها "الطهرانيّ" أسقطه الانتقاء بناء على لائحة أعدّتها كيديّة سياسية.
في الأساس، لم يكن للقاضية عون أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا سياق قاده الرئيس السابق ميشال عون ويقضي بإحكام السيطرة على الجيش والقضاء والأمن. فكانت تسميتها مدّعية عامّة لجبل لبنان بقرار من رئيس الجمهورية ومَن أحاط به من "أخيار" اقترحوا اسمها.
إخراج القاضية عون يعني وقف الكيديّة عبر توقيفات بسبب إبداء الرأي في العهد الذي وسم نفسه بـ "عهد جهنّم".
لم تلتفت يوماً إلى ارتكابات "وزراء التيار العوني" في وزارات الكهرباء والمياه وتراكم الدَّيْن العامّ وارتفاعه بسرعات ضوئية. شعبويّتها كانت تبعث على الاشمئزاز. وَلَهت حبّاً بالكاميرات التي كانت ترافقها. الوَله الأكبر كان في الحمايات الأمنيّة التي تشقّ لها الطرقات في عراضاتها الاقتحامية هنا وهناك.
الواقعة الفريدة في دولة فاشلة
لم يحدث في تاريخ القضاء اللبناني أن تلقّى قاضياً ما تلقّته عون من شكاوى بلغت 12 شكوى. وإذا كانت أمامها مهلة 15 يوماً لاستئناف القرار الصادر بحقّها أمام الهيئة العليا للتأديب، فإنّ يدها ستبقى مكفوفة مهما طالت المدّة، علماً أنّها تُحال إلى التقاعد بعد عامين ونيّف.
خروجها يُنهي شيئاً من "فلسفة القوّة" التي ردح بها التيار العوني حتى صمّ آذان اللبنانيين. لم يبقَ من اشتقاق سياسي إلّا وربطوه بـ "القوّة": "العهد القويّ"، "الأقوى في طائفته"، حتى عند خروج عون من بعبدا أبلغنا الرئيس السابق عن نوع جديد من "النضال" أطلق عليه "بداية مرحلة النضال القويّ".
سقوط "منطق الإستقواء" انتصار للدولة
منطق "القوّة" والاستقواء الذي طبع عهداً مضى، استدعى استنفاراً ولم يؤدِّ إلى بناء الدولة. حتى إنّه لم يحفظ ما تسلّمه. تآكُل الحجم لم ينبّه أحداً من العونيين إلى أنّ الاجتماع المسيحي ارتكس على المستويات كافّة.
الخسارة التي حلّت جاءت في متن الانهيار. وقياساً على التراكيب الأهلية اللبنانية ومعاييرها الخارجة عن أيّ منطق للدولة، فإنّ من يخسر التمثيل في لحظات التصدّع يفقد أهليّة قيادة طائفة نزفت ديمغرافياً حتى الضمور الكلّي بسبب "جهنّم" التي بلغناها جميعاً.
مثل هذه المرارة الناتجة عن "فلسفة القوّة" لا تني تتكرّر في لبنان ماضياً وحاضراً، والأرجح مستقبلاً مع تصدّع "قوّة السلاح وغلبته". البلد لا يُحكَم بالقوّة على معناها العاري من أيّة سلطة تضبطها. كلّ البلدان التي حُكمت بالقوّة سقطت. وحدها الدول المحكومة بـ "قوّة القانون" تستمرّ وتتجدّد.
*عن صفحة أساس-ميديا