لم تبدأ الأزمة منذ تشرين الأول 2019 بل منذ تشرين الأوّل 2016، أي منذ إبرام التسوية التي أمنّت انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية مقابل ترؤس سعد الحريري للحكومة، وذلك لسببين مترابطين.
الأوّل أنّ هذه التسوية كرّست وضع لبنان ضمن محور الممانعة أي أنّها وضعت لبنان ضدّ نفسه باعتبار أنّ البيئة الاستراتيجية التاريخية التي تؤهّل الاقتصاد اللبناني للنمو هي البيئة العربية والغربية، أي البيئة النقيضة لبيئة الممانعة التي تعادي العرب والغرب.
والسبب الثاني هو أنّ تلك التسوية أعادت رسم المشهد السياسي على قاعدة أنّ لا انقسامات سياسية في لبنان، فجميع القوى تنشد الاستقرار وهي لذلك دخلت في التسوية. لكنّ واقع الأمر أنّ إلغاء هذه الانقسامات لم يكن سوى تسليم لبنان سياسياً وأمنياً لحزب الله. وبالتالي كان فوز حزب الله مزدوجاً، فمن ناحية أوصل حليفاً له إلى قصر بعبدا، ومن ناحية ثانية كسب رضوخ القوى السياسيّة التي كانت تعارضه وبالتالي ألغى إمكانات قيام جبهة سياسية معارضة له.
بذلك أصبح الحزب يرسم سياسات الدولة ويوجّهها من وراء شاشة التلفزيون وعبر القنوات السريّة والكلّ يلبّي وإما لا يعارض ما دامت تلبية طلبات الحزب أو عدم معارضتها جدّياً تؤمّن المناصب والمقاعد النيابية عبر قانون الانتخابات الغريب العجيب الذي أثلج قلب قاسم سليماني قبل اغتياله عندما قال إن البرلمان اللبناني يضمّ غالبية مؤيدة لإيران.
منذ ذلك الحين شلّت الحياة السياسيّة إذ اقتنعت القوى السياسية الكبرى أنّه لا طائل من معارضة الحزب والأفضل أن نقبل بالأمر الواقع ونستفيد منه من خلال تحقيق مكاسب سياسيّة خاصة حتّى ولو انهارت الدولة والمجتمع.
لذلك عندما قامت انتفاضة 17 تشرين غضب الحزب وسارع إلى الضغط عليها أمنياً وإعلامياً وسياسياً بهدف إجهاضها وقد نجح جزئياً في ذلك، ولكن ماذا كانت النتيجة: الحزب هو القوة السياسيّة الأقوى في بلد منهار!
ثمّ ومع تفاقم الأزمة المالية والإقتصادية صارت القوى السياسية تتبارز في اقتراح الحلول لها، في وقت كان الحزب يتفرّج عليها تقع أسيرة هذه الأزمة بينما هو يتصرّف بمعزل عنها. أي أنّه كان ينظر إلى الأزمة إنطلاقاً من تأثيرها على أولوياته الإقليمية، فطالما أنّ الأزمة لا تضغط على أولوياته فهو غير مستعجل لإيجاد حلول لها، بل على العكس فهو يحاول جاهداً الاستفادة منها بغية أجراء تعديلات جوهرية على النظام السياسي والاقتصادي في البلد.
في مقابل هذا المشروع "التغييري" والإنقلابي للحزب وحليفه التيار الوطني الحر، لم تقم جبهة معارضة تتمسّك بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني اللذين يحاول الحزب والتيار الانقلاب عليهما منذ اتفاق مار مخايل في العام 2006. وقد حقّقا حزءاً من هذا الانقلاب في اتفاق الدوحة في العام 2008، واليوم يحاولان ركوب الأزمة لإجراء تعديلات دستورية كما عبّر عن ذلك نصرالله وباسيل، وكما ورد في بيان الحوار الوطني المبتور الذي عقده عون في بعبدا في حزيران الماضي.
لذلك فحتّى الآن لا يزال الموقف من تسوية 2016 موقفاً محدّداً لأولويات القوى السياسيّة. فأي من هذه القوى التي شاركت في التسوية لم يعلن انفكاكه منها، خصوصاً تلك التي تعترض الآن على طريقة تصرّف العهد. بالتالي فإنّ الحزب ما يزال حتّى اللحظة مطمئناً لعدم استعداد أي من قوى التسوية للإنتقال إلى المعارضة التي لا يمكن أن يكون سقفها إلّا المطالبة بتطبيق الدستور ووثيقة الوفاق الوطني وبتنفيذ القرارات الدولية المستندة إليهما، وهو ما ركّز عليه البطريرك الماروني بشارة الراعي في مبادرته الداعية إلى طرح قضية لبنان في مؤتمر دولي يدفع باتجاه تطبيق الدستور واتفاق الطائف.
فمقابل المنحى الإنقلابي الذي يسلكه الحزب والتيار على الدستور واتفاق الطائف يفترض أن يكون عنوان أي معارضة التسمك بهما والدعوة إلى تطبيقهما إلى جانب المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بلبنان، وإلا فما هو سقف المعارضة الفعّال والهادف إن لم يكن هذا السقف؟