ليس سلوك حزب الله في لبنان معزولاً عن سلوك إيران في المنطقة بل هو جزء رئيسي منه. ويتمثّل هذا السلوك بسيطرة إيران وأذرعها على القرار السياسي والأمني والإقتصادي في العواصم العربية الأربع التي قالت طهران أنها تسيطر عليها وهي صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت. وحتّى لو كانت هناك فوارق في السلوك الإيراني في كلّ من هذه البلدان تبعاً لظروفها الموضوعية وخريطة النفوذ الدولي والإقليمي فيها، فإنّ هذه الفوارق لا تطال جوهر الاستراتيجية الإيرانية المتمثلة بالاستحواذ على القرار في هذه البلدان.
يمكن معاينة ما يجري في العراق لتحديد السمات الرئيسية لهذا السلوك الإيراني وخصوصاً لناحية الضغط الأمني والسياسي الذي تمارسه ميليشيات الحشد السعبي على الحكومة العراقية وتحديداً على رئيسها مصطفى الكاظمي الذي يحاول أن يعيد بناء علاقات العراق مع محيطه العربي وأن يخرج بلاده من تحت المظلّة الإيرانية الكاملة لاسيّما بعدما إنهار اقتصادها وهي الغنية بالنفط.
على هذا المنوال تحاول ايران تذكير الكاظمي دائماً بأنّها لا تقبل أن يتراجع نفوذها في العراق الذي تعدّه عمقها الاستراتيحي وقد فتح أسقاط نظام صدّام حسين الباب لها للتوغّل في المنطقة وصولاً إلى شواطئ البحر المتوسّط في سوريا ولبنان. ولطالما شكّل هذا الوصول حلماً تاريخياً لها بعدما حرمت منه منذ عهد الملك داريوس. علماً أنّ تدخلّ روسيا في سوريا لإنقاذ نظام بشار الأسد الذي عجزت إيران عن حمايته لوحدها حرمها الإطلالة على المتوسّط من البرّ السوري، وبالتالي فهي تستقتل لترسيخ نفوذها في لبنان للحفاظ على منفذ على المتوسّط.
والحال هذه لا يمكن إخراج سياسات حزب الله من هذا الإطار الاستراتيجي الإيراني الواسع والذي يمتدّ من صنعاء وصولاً إلى بيروت. فالهدف الرئيسي للاستراتيجية الإيرانية في تلك العواصم الأربع هو قلب الأوضاع فيها رأساً على عقب. وهو ما يسمح لطهران بوضع يدها على القرار السياسي والأمني في هذه البلدان - أو بالحد الأدنى التأثير فيه تأثيراً كبيراً - وتطويع اقتصادها واجتماعها بما يخدم الاستراتيجية التوسعية الإيرانية.
لذلك من غير المعقول أن يتّم إخراج الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان عن إطارها الجيوسياسي وتناولها فقط من باب تقني متعلّق بالسياسات المالية والدولة، وأيّ دولة أصلاً؟!؟
فكلّ ما يحصل في لبنان الآن إن لم تكن أسبابه سياسية بحت فإنّ مآلاته سياسية بحت. أي أنّ الإنهيار المالي والإقتصادي الحاصل تمّ وما يزال يتمّ استغلاله سياسياً في إطار الإنقلاب الكبير المشار إليه أعلاه. من هنا فإنّ قرار حكومة حسّان دياب المعروفة الولاء السياسي بعدم دفع مستحقات ديون لبنان للخارج من دون خطة واضحة كان قراراً سياسياً بامتياز لفصل لبنان عن المسار المالي والاقتصادي العالمي. كذلك فإنّ خطّة حكومة دياب للإصلاح المالي والاقتصادي تضمّنت الكثير من النقاط التي تمسّ بجوهر الإقتصاد الحرّ الذي تكفله مقدّمة الدستور اللبناني. كما حاولت هذه الخطّة التأسيس لواقع مصرفي جديد في لبنان يكون بحكم موازين القوى الحالية منحازاً لمصلحة الفريق المسيطر على البلد.
حتّى انفجار المرفأ وبالرغم من هوله وفظائع أضراره البشرية والمادية لم يسلم من عملية استغلاله سياسياً ضمن استراتيجية الإنقلاب نفسها، وإلّا كيف يفسّر الإقحام السياسي والإعلامي للجيش في هذا الملّف ومن باب تحميله وقيادته مسؤولية أساسية في تخزين نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، ومن جهة تدّعي حرصها الشديد على الجيش لا بل تضعه كجزء من معادلتها الذهبية "الجيش والشعب والمقاومة"، فما عدا ما بدا حتّى يصبح اليوم هذا الجيش نفسه "مطالباً" بكشف حقيقة انفجار المرفأ! فما وظيفة القضاء إذا كان على الجيش أن يكشف هذه الحقيقة؟ هذا مع العلم أنّ الجهة عينها حريصة جدّا على القضاء اللبناني ولا تقبل أن يشاركه في الملّف أي جهة قضائية دولّية!؟!
كذلك ما سرّ توجيه هذا الطلب إلى الجيش في هذا التوقيت بالذات، بينما تتتالى التقارير الغربية عن تورط رجال أعمال في دائرة النظام السوري في شحنة نيترات الأمونيوم؟
كلّ ذلك يجعل الحاجة ملحّة إلى خلق وعي سياسي وقطاعي ومجتمعي مضاد للانقلاب الممنهج الذي يتعرّض له لبنان دولة ومجتمعاً وقطاعات اقتصادية، بهدف استنهاض حالة وطنية تتمسّك بالدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني كإطارين مرجعين لأي عمل سياسي مناهضة للإنقلابيين. كذلك فإنّ كل الوقائع المتصلة بملف انفجار المرفأ تؤكّد ضرورة المطالبة بلجنة تحقيق دولية في هذه الجريمة، وإلا ضاعت الحقيقة وأفلت المجرمون من العقاب!