طوال السنوات الماضية كان الرئيس ميشال عون في كلّ مرّة يلتقي فيها مسؤولاً دولياً أو أممياً يطالب بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم حتّى قبل أن يتمّ التوصّل إلى حلّ سياسي للأزمة السورية، كما أنّه لطالما اعتبر أنّ وجودهم في لبنان سبباً رئيسياً في الأزمة الإقتصادية.
الأكيد إنّ ملف اللجوء السوري ملفّ شائك ومعقّد بالنظر إلى تبعاته على الوضع اللبناني وبالنظر أيضاَ إلى كونه ملفاً سياسياً. فالنظام السوري حوّل ملفّ اللاجئين السوريين إلى ورقة ضغط إقليمية ودولية يستخدمها لتحسين شروطه في المفاوضات حول الوضع السوري. مع العلم أنّ كثيرين من السوريين الموجودين في لبنان صوتوا لبشار الأسد خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبالرغم من ذلك فهم يواصلون الإقامة في لبنان. كما أنّ السفارة السورية لم تقم بأي مبادرة جدية لإعادة هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم. واللافت أنّ حلفاء النظام اللبنانيين الذين يطالبون بعودة اللاجئين السوريين لا يتوجهون بكلمة إلى النظام السوري وسفارته. وهذا ما يؤكّد تسييس الملف بغية استخدامه في الصراع السياسي، فضلاً عن أنّ العديد من اللاجئين السوريين لجأوا إلى لبنان من مناطق حروب حزب الله في سوريا!
الآن يفترض بالرئيس عون أن يتحضّر لموضوع آخر. فالمسؤولون الدوليون والأمميون الذين سيلتقيهم في السنة الأخيرة من عهده (مبدئياً!) سيسألونه عن ملف اللاجئين اللبنانيين غير الشرعيين إلى أوروبا وعن إجراءات الدولة اللبنانية للحد من هذه الظاهرة. بالتالي فإنّ الهمّ الدولي في لبنان لم يعد يتمحور فقط حول اللاجئين السوريين إذ بات يشمل أيضاً ملف اللاجئين اللبنانيين بعدما استغلّ 39 لبنانياً هبوط طائرتهم في أسبانيا لطلب اللجوء فيها. كذلك ثمّة تقارير تفيد أن عمليات الهجرة غير النظامية آخذة في التوسّع شمالاً، والجمعة أوقف الجيش اللبناني 90 شخصاً بينهم نساء وأطفال كانوا ينوون الهجرة بحراً.
إذا فإنّ ما كانت تخشاه الدول الأوروبية في لبنان وقع. فطيلة السنوات الماضية سعت دول الاتحاد الأوروبي إلى مساعدة اللاجئين السوريين كما حرصت دائماً على استقرار الأوضاع الأمنية في لبنان وذلك كلّه لأنّها كانت تخشى من تدفقّ موجات من اللاجئين السوريين نحو أوروبا هرباً من سوء الأوضاع في لبنان. ولا شكّ أن مخاوف الأوروبيين هذه كانت عنوان ابتزاز سياسي دائم من جانب الحزب وحلفاؤه، باعتبار أنّ إمساك الحزب بالورقة الأمنية في لبنان تجعل الدول الأوروبية "تتساهل" معه لكي لا يؤدي أي اهتزاز أمني كبير إلى موجات هجرة جماعية من لبنان.
الآن ما عادت المخاوف الأوروبية تنحصر في الهجرة السورية وحسب بل باتت تشمل الهجرة اللبنانية أيضاً. وهذه المرة ليست "هجرة الادمغة" كما جرت العادة بل هجرة الطبقات المعدمة اقتصادياً واجتماعياً والتي تدفعها الأزمة الخانقة إلى ترك كلّ شيء والهروب في البحر نحو أوروبا.
لذلك فإنّ ملفّ المهاجرين اللبنانيين سيتحوّل ملفّاً سياسياً يستخدمه إئتلاف الحكم لتحصيل مكاسب سياسية باعتبار أنّ ملفّ اللجوء تحوّل في دول الإتحاد الأوروبي إلى ملف جيوبوليتكي باميتاز ولاسيّما في ظلّ التطورات على الحدود البيلاروسية – البولندية. هذا فضلاً عن الخلافات المزمنة بين دول الإتحاد حول توزيع اللاجئين بينها.
بالتالي فإنّ الدول الأوروبية ستجد نفسها مضطّرة إلى الاهتمام أكثر بتدهور الأوضاع الإقتصادية في لبنان، وقد يستدعي ذلك تعديلات في استراتيجيتها للتعامل مع الملف اللبناني. فإمّا أنّها ستقدّم دعماً اقتصادياً أكبر للمجتمعات المهمشة، ولكن الفقر بات يطال شرائح واسعة جداً من المجتمع وهو ما يفترض أن يزيد من وتيرة الدعم وتكلفته. وبالتزامن فإنّ هذه الدول قد تضغط أكثر لإحداث تغيير سياسي عبر الانتخابات النيابية لعلّ هذا التغيير يدفع باتجاه المباشرة بالإصلاحات الإقتصادية المطلوبة لدعم لبنان دولياً ما قد يخففّ تدريجاً من أعباء الأزمة الإقتصادية والإجتماعية.
لكن حتّى الآن فإنّ أحداً لا يمكنه التعويل كثيراً على تغيير جوهري في الإنتخابات المقبلة وبالتالي فإنّ الدول الأوروبية ستترك الباب مفتوحاً مع القوى الحاكمة وعلى رأسها حزب الله وستكون مضطرة لتقديم المزيد من التنازلات السياسيّة لها.
في المحصلة فإنّ ظاهرة المهاجرين اللبنانيين الآخذة في البروز تؤكد مرّة جديدة واقع الحال في لبنان الذي وقع تحت قبضة النفوذ الإيراني وأصبح إحدى الدول الأربع التي تفاخر طهران بحكمها بينما يهرب أهلها في البرّ والبحر هرباً من الجوع والظلم... فأي انتصار أكبر من هذا الإنتصار!