في الوقت الذي تواجه فيه "منظمة التجارة العالمية" ومقرّها جنيف أكبر أزمة في تاريخها منذ تأسيسها في العام 1995 فهي ما زالت تبحث عن مدير عام جديد ليخلف البرازيلي روبرتو أزيفيدو، الذي غادر منصبه نهاية آب الماضي، قبل عام من انتهاء ولايته. وقد شاء أزيفيدو الرحيل في وقت فاقمت جائحة "كوفيد 19" أزمة المنظمة، بعدما أثّرت تأثيراً كبيراً على التجارة العالمية التي من المتوقّع أن تشهد انخفاضاً يصل إلى الثلث هذا العام، وفق المنظمة.
وأجرت المنظمة بين 7 و16 أيلول سلسلة أولى من المشاورات مع كل من الدول الأعضاء الـ164، استبعدت بموجبها ثلاثة مرشحين من بين ثمانية كانوا قد أعلنوا ترشحّهم، وستجرى سلسلتان أخريان من المشاورات في أوكتوبر ونوفمبر المقبلين على الأرجح. ومن بين المرشحين الخمسة الباقين مرشّح عربّي هو وزير الإقتصاد السعودي السابق محمد التويجري.
لقد شهد العالم بأسره على العطب الذي ظهر في قدرات "منظمة الصحية العالمية" في التصدي لجائحة "كوفيد 19" بالنظر لمحدودية صلاحياتها، لكن الأهم بسبب اتهامها من قبل الولايات المتحدة الأميركية بمحاباة الصين، وصولاً إلى وقف المساهمة الأميركية في موازنة المنظمة في أوج الأزمة الصحية العالمية.
غير أنّ الخلافات والتباينات داخل "الصحة العالمية" ومن حولها تبدو قليلة الأهمية نسبة إلى تلك التي تعصف بـ "التجارة العالمية" لاسيّما لجهة تأثيرات النزاعات التجارية بين الدول الصناعية الكبرى على فاعلّية المنظمة، ولا سيّما بين الصين والولايات المتّحدة الأميركية، وبين الأخيرة والاتحاد الأوروبي الذي تشهد العلاقات التجارية لبعض دوله الكبرى مع الصين توتّرات أيضاً.
وقد ظهر الاختلال في عمل المنظمة بوضوح، عندما شلّت الولايات المتّحدة، منذ كانون الأول/ديسمبر الفائت، محكمة الاستئناف التابعة لهيئة تسوية النزاعات الرئيسية في المنظمة من خلال الحيلولة دون تعيين قضاة جدد فيها. وذلك بحجّة عدم رضاها عمّا تعتبره تجاوزات المحكمة واستهانتها بقواعد المنظمة. كما أن واشنطن ترفض الكيفية التي قامت بها المنظمة بتقييد يديها في التعامل مع الصين. وراهناً، لا يزال هناك قاض وحيد يواصل العمل في المحكمة المذكورة وهي المكونة في الأصل من سبعة أعضاء. مع العلم أنّ قيامها بعملها يتطلّب وجود ما لا يقل عن ثلاثة قضاة. وقد قام بعض الأعضاء في المنظمة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والصين، بإنشاء آلية مؤقتة للحسم في النزاعات التجارية، وهو ما أثار حفيظة واشنطن حتماً.
أمّا المظهر الثاني للأزمة الكبرى داخل المنظمة فتجلّى في عجز الدول الأعضاء على التوافق في أواخر تموز/يوليو الماضي على تعيين مدير مؤقت للمنظمة إلى حين اختيار مدير جديد. إذ كان من المفترض أن يتولى أحد مساعدي المدير الأربعة، وهم أميركي وألماني ونيجيري وصيني، الإدارة المؤقتة للمنظمة، لكن واشنطن وبروكسل لم تتمكنا من التوافق في هذا الشأن. وقد أعتبر الفيتو الأميركي على تسمية المساعد الألماني الذي كان يحظى بدعم معظم الدول، بمثابة دليل على عزم إدراة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على تشديد ميزان القوى مع الاتحاد الأوروبي قبل الانتخابات.
وفي خضمّ العمليّة المعقّدة لاختيار رئيس جديد عادت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى الواجهة، حيث رفضت محكمة تابعة للمنظمة يوم الثلاثاء الماضي الحجج التي قدّمتها واشنطن لفرض الرسوم الجمركية على نحو 250 مليار دولار من البضائع الصينية في العام 2018. إذ اعتبر أعضاء اللجنة المكوّنة من محامين في المنظمة، والمسؤولة عن الفصل في هذه القضية بناءً على طلب من بكين، أن الإجراءات التي قرّرها ترامب تنتهك العديد من قواعد المنظمة.
وتعليقاً على القرار، أعاد ترمب التأكيد على أنّه ليس من المعجبين بـ "التجارة العالمية"، وقال: "سيتعين علينا إذن عمل شيء ما حيال المنظمة لأنهم سمحوا للصين بأن تفلت بجريمتها. لعلّهم أسدوا إلينا معروفا كبيرا"، وهو ما يمكن قراءته كتلويح جديد من قبل ترامب بالانسحاب من المنظمة كما هدّد بذلك في آب 2018.
وفي السياق، أكّد المرشح السعودي التويجري خلال مؤتمر نظّمه نادي الصحافة السويسري في 16 أيلول، أنّ "المنظمة شبه مشلولة بسبب الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وعدم ثقة إدارة الرئيس ترمب بالمنظمة والعمل متعدّد الأطراف عموما، فضلاً عن إحجام المنظمة عن مراجعة طريقة عملها".
وفي ظلّ تفاقم التوّترات المذكورة يبدو أنّ مهام المدير العام الجديد حال تعيينه ستكون صعبةُ جداً، وستحتّم عليه مراعاة التوازنات الهشّة بين الأعضاء الأقوياء والعمل على تفعيل إصلاح المنظمة.
وكان التويجري، المرشّح العربي الوحيد الباقي في السباق، قد أفصح عن تصوّره للمواصفات التي يفترض أن يتحلّى بها المدير العام، إذ قال في تصريح لصحيفة الوكالة الإقتصادية والمالية بجنيف في 8 أيلول، إنّ "على المدير العام أن يكون المديرالعام للمنظمة "محايدا يمكنه تنفيذ رؤية الأعضاء واستعادة الثقة في منظمة التجارة العالمية". ورأى أنّ "المرشّح المثالي يجب أن يتمتّع بخبرة في الإدارة الحكومية وثقافة أداء القطاع الخاص".
كما أكّد أنّ "أولوية تنشيط منظمة التجارة العالمية هي أن يكون لديك قائد يتمتع بخبرة إدارية وديناميكية تشغيلية ضرورية لبث طاقة جديدة في المنظمة التي تحتاج إلى انبعاث جديد لتكون قادرة على تمثيل جميع البلدان وضمان احترام الجميع لنظام تجاري متعدد الأطراف منصف وعادل وفعال".
وشدّد على أنّ "آلية التجارة متعددة الأطراف هي وحدها التي ستكون قادرة على الاستجابة لأخطر الظواهر العالمية ". كما أشار إلى أنّ "استعادة حوار مثمر وفعال بين الأعضاء ستكون ضرورية لتجنب المزيد من التراكم في النزاعات". وقال: "إذا تعذر حل المشكلات الإجرائية ضمن هذا الإطار، فيجب إعادة التفاوض على القواعد الحالية. لا يمكن لمنظمة التجارة العالمية أن تعمل بدون شفافية ورقابة وتصحيح".
وتتقاطع رؤية المرشّح السعودي لمواصفات المدير العام للمنظمة مع رؤية سويسرا البلد الذي يحتضن المنظمة والذي أصبح وأحداً من المحاور الرئيسية لتجارة السلع العالمية والقوة العالمية الثانية في التجارة الدولية البحرية. إذ صرّح ديديي شومبوفي سفير سويسرا لدى المنظمة في 22 تموز أنّه من المهم بالنسبة لبلاده أن يكون المدير العام "شخصية تتمتع بخبرات مهارات في الإدارة، مؤهلاً لإنجاح تحدّي إصلاح المنظمة، كما أن يكون قادراً على الإصغاء إلى الدول الأعضاء وإحلال التوافق". كما يجب، برأيه، أن يتمتع المرشح المثالي "بثقل سياسي".
والجدير ذكره أنّ كلام التويجري يعكس رؤية بلاده لدور المنظمة وآفاق النظام التجاري العالمي، إذ كانت بعثة السعودية لدى منظمة التجارة العالمية قد ذكرت في مذكرتها إلى المنظمة لإعلان ترشيح التويجري لمنصب مديرها العام في 7 تموز الماضي، "إيمان المملكة الكبير بالنظام التجاري متعدد الأطراف ودور منظمة التجارة العالمية الحيوي في هذا النظام".
ويتماشى هذا التوجّه مع دعوة "مجموعة العشرين"، التي ترأسها السعودية لعام 2020، إلى "تعزيز الإصلاحات اللازمة للمنظمة ودعم دور النظام التجاري متعدّد الأطراف في تعزيز الاستقرار والتنبؤ بتدفّق التجارة"، وفق ما ورد في بيان وزراء التجارة والإستثمار للمجموعة، في 14 أيار الماضي، إثر اجتماعهم لمناقشة إجراءات دعم التجارة والاستثمار الدوليين في الاستجابة لجائحة كورونا. كما دعا الوزراء إلى استمرار النقاشات حول كيفية دعم "مجموعة العشرين" لعمل المنظمة تحت مظلة مبادرة الرياض بشأن مستقبلها. وفي السياق، تجري الآن تحركات داخل المجموعة لوضع أطر تفصيلية كمقترحات عملية يمكن تبنيها من الدول الأعضاء كخريطة طريق لإصلاح المنظمة.
يظهر ممّا تقدّم أنّ المنظّمة تواجه تحديات جوهرية تتصّل بتفاقم التنافس والنزاع بين الأقطاب الإقتصادية الكبرى في العالم، في وقت تسعى الصين لتقوية نفوذها في المنظمات الدولية، بما فيها "التجارة العالمية"، وذلك في مقابل النزعة الإنعزالية الأميركية تجاهها. وسط هذا المناخ الدولي المتشنّج خصوصاً عشيّة الانتخابات الرئاسية الأميركية وفي ظلّ الآثار السلبية التي رتّبها تفشي الفيروس على التجارة والاقتصاد العامليين، تكتسب عمليّة اختيار مدير عام جديد لـ "منظمة التجارة العالمية" أهميّة قصوى، حيث يمكن اعتبار أن اختيار مرشّح توافقي يمكن أن يشكّل خطوة أولى نحو الحدّ من تفاقم أزمة المنظمة بتجلّياتها المختلفة.