لم تعد الاتصالات الداخلية تفضي إلى شيء. الوقائع الداخلية كلّها تقول: صرتم أمام حائط مسدود. عمليّاً أصبحت الحركة السياسية اللبنانية من النوع المحلّي الضيّق جدّاً. بل صارت أقرب إلى العمل البلديّ. عليه قد يكون من الأجدى مقاربة السياسة من الخارج إلى الداخل.
جمهوريّات ملكيّة تنهار
منذ عام 2010 عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه، وانطلق ما سُمّي "الربيع العربي"، سقطت رؤوس الجمهوريّات كلّها. وبلدان كثيرة تغيّرت أسماؤها:
- سوريا لم تعد سوريا الأسد.
- مصر لم تعد مصر حسني مبارك.
- اليمن اختفى منه علي عبد الله صالح.
- اختفى قذّافي ليبيا.
وتوازنت الأمور قليلاً، وعادت تُعرف هذه الدول بأسماء جغرافيّتها السياسية. أمّا الناجي الوحيد من هذا الحريق الهائل فكانت المَلَكيّات والإمارات.
هذا الكلام لا يروم نقاشاً في أفضليّة هذا النظام على ذاك، ولا أفضليّة الملَكيّات على الجمهوريات، أو العكس. ولربّما كانت نجاة الملَكيّات بفعل أمرين:
الأول، الإسلام بما هو دين يحثّ على طاعة ولاة الأمر وحضوره في الميدان السياسي.
الثاني، النفط مصدر الطاقة القادر على تقديم بوليصة تأمين لهذا النظام بوجه أيّ تدخّل، مع قدرة على منع شبح الجوع من التغلغل في بيئاتها.
عمليّاً ، لا القديم مات ولا الجديد وُلد:
- تونس عاجزة عن إنجاز الاستحقاقات الدستورية.
- مصر في أزمة اقتصادية خانقة. لا سبيل واضحاً حتى الساعة للخروج منها.
- سوريا صارت ساحة تقاسم نفوذ وطاولة مفاوضات.
- ليبيا على باب أن تتحوّل إلى دويلات قبليّة وجهويّة ذات هويّات متعدّدة.
** اليمن أغرقته الجماعة الحوثية في حرب أهلية.
على هذا التصدّع تنهض ثلاث قوى: إسرائيل، تركيا، وإيران.
- إسرائيل ألغت باسم الأمن فلسطين وقضيّتها، وما زاد الأمور صعوبةً وتعقيداً هو صعود يمين كاره للعرب ويتشكّل من رؤساء عصابات دينية - قومية.
- تركيا تحت عنوان الأكراد تجعل من سوريا ميداناً للقتل وساحة حرب لا تتوقّف الانفجارات فيها تدمّر كلّ ما بقي، بعدما تسبّب نظام أسدها بتشريد نحو عشرة ملايين سوري ومقتل وجرح مليون آخر.
- إيران تحت عنوان "النفوذ" سيطرت على أربع عواصم عربية، وراحت تُغيّر في طبيعة وأسلوب العيش في هذه العواصم وبلدانها.
الداخل اللبنانيّ المفرَغ
أمّا لبنان، حيث يتمادى الانهيار أشكالاً وفصولاً، فقد نجح في النجاة، لا بفضل مدبّري السلطة الحسيري النظر، إنّما بفعل حيوية مجتمع داخلي يساعده الخارج ويقاتل بضراوة دفاعاً عن أسلوب عيشه بقدر ما يستطيع إلى ذلك سبيلاً. لكنّ كلّ ما يحصل في البلد يعزله عن العيش.
لقد صار الإصرار على تبنّي اللبنانيّة الخالصة من كلّ استتباع خارجي مثل القابض على الجمر. واستدعاء الانتباه العربي الخليجي هو استدعاء للانتباه إلى ما يحصل في المنطقة أوّلاً، وفي لبنان ثانياً
لقد بلغ الداخل اللبناني حدّاً من القسوة والجنون في "صكّ دفاتر شروط" تمنع أيّ حوار بين اللبنانيين. كلّ ذلك بسبب الشروط والشروط المضادّة. حتى الساعة لم يكتشف اللبنانيون أنّ البلد صغير لدرجة أنّه يصعُب على أيّ طائفة أو جماعة أو قوّة سياسية أن تدّعي امتلاكها الحقّ والقدرة على حكمه والتحكّم به. ونعلم أنّ الخارج يعاملنا أصلاً بوصفنا أقليّات. هذا التوصيف يصحّ على ما يجري اليوم في ظلّ موت رهيب .
في لبنان اليوم قوى وأطراف تستند إلى مدد عسكري وأيديولوجي، وهي بالتعريف "قوى الممانعة". وفي البلد أيضاً قوى أخرى ترفض أن تُدعى لموجبات أيّ حوار، ما لم تضمن الخاصّ من مصالحها ومكاسبها.
من نافل القول أنّ هذا كلّه هذيان سياسي يستثمر حيواتنا، لأنّ أصل المعضلة سياسيّ ووطنيّ لبناني عامّ.
هذا كلّه يستدعي من الخليج العربي أن يلتفت:
أوّلاً إلى الصراع الثلاثي الإسرائيلي - التركي – الإيراني على "تركة الميت العربي".
ثانياً وثالثاً وعاشراً إلى ما يحصل في لبنان.
هذا نصّ في السياسة، وليس للاستغاثة الإنسانية. البلد الآن صار كلّه منتفخاً بعلاقات قواه السياسية الخارجية. بعض هذه القوى مصدره الثلاثي الآنف الذكر. وبعضها الآخر من دول العالم كلّه، اللهم باستثناء الدول العربية.
لقد صار الإصرار على تبنّي اللبنانيّة الخالصة من كلّ استتباع خارجي مثل القابض على الجمر. واستدعاء الانتباه العربي الخليجي هو استدعاء للانتباه إلى ما يحصل في المنطقة أوّلاً، وفي لبنان ثانياً.
رجح الميزان في لبنان لصالح إيران حين توقّف العرب عن اعتبار بيروت خطّ الدفاع الأوّل عن العروبة وجزءاً من الأمن القومي العربي. اليوم لا أمن للعرب قبل تأمين بيروت، وقبل أن يعودوا إلى اعتبار لبنان ساحتهم الأولى، وبيروت خيمتهم السياسية.
* نُشر على صفحة أساس-ميديا