من المستغرب ان يستغرب احدهم ما يجري على الساحة اللبنانية من سجالات وقنابل صوتية غرائزية وطائفية واستفزازات!
من المستغرب ان يستغرب أحدهم التبعية والاستقواء لهذا الطرف أو ذاك على حساب أطراف بدأوا يترهلون ويشعرون بالعجز مع سحب بساط الامتيازات من تحت أقدامهم!
لا شيء تغير ليتغير المبدأ والأسلوب المتبعان بموجب ما أفرزته توازنات الكبار على الساحة اللبنانية. ولا شيء يدعو الى التغيير ما دام هذان المبدأ والأسلوب يؤتيان ثمارهما ويفتحان لمن ينتهجهما الدروب الى السلطة والنفوذ.
لا تتم محاسبة أحد الا لإزاحته والحلول مكانه، وليس لتصويب بوصلة المبادئ والقيم الكفيلة ببناء دولة المؤسسات وإنتاج طبقة سياسية مختلفة عن الطبقات التي تستبيح المال العام وتجعل ممن يسوسون البلاد والعباد أصحاب ثروات لامحدودة، في حين يقف لبنان على شفير الإفلاس، ويتسول ما يحول دون سقوطه من مجتمع دولي عليم وصامت على مزاريب الفساد المشرعنة.
لا شيء في التركيبة جدير ببارقة أمل. ولا يهم من يُقتل جسدياً او معنوياً إن هو حاول تقويض هذه التركيبة. استعادة ذكرى شهداء الاستقلال الثاني وفق الرزنامة تؤكد المؤكد.
فالمعادلة القائمة على هذا الشعب وهؤلاء الحكام، لا تزال على ما كانت عليه مذ تمكنت الحرب الاهلية اللبنانية من فرز طبقة سياسية، ولاؤها دائماً وأبداً للخارج. والخارج الأقوى وفق المعادلات الإقليمية يحدد الداخل الأقوى.
من يريد التغيير يراهن على دعم من خارج أقوى يطيح القوي الذي يصادر قراره، في حين يخاف المستقوون بهذا الخارج من ضربة تطيحهم فيفقدون امتيازاتهم. لذا يهددون بأن أي استهداف لمرجعيتهم تفتح أبواب الجحيم على الجميع.
المسألة لا تكمن في الايديولوجيا، والا لَما شهدنا تحالفات بين من كان في حضن الاستكبار العالمي ومن كان رأس حربة الممانعة في المنطقة. ولَما شهدنا تقاسم سلطة بين من يتبادلون التخوين عند كل منعطف سياسي. المصلحة تفرض معادلاتها. و"على أعدائي" من دون رحمة، حتى لا تقع عليّ عندما تتهدد هذه المعادلات.
طعم السلطة لذيذ لمن ذاقها ثم حُرم منها ثم عاد ليتمرغ في نعيمها، فتعلم الدرس، وأقسم بينه وبين نفسه على ان لا يعاود سياسة المواجهات العقيمة القائمة على القيم في حين أن التعبئة الشعبوية أجدى.
ويا لخيبة من يراهن على ان "عدو عدوي" هو منقذي. فلا صوابه صواب ولا جرائم الآخرين مدانة، ولا وجدان للشعب اللاحق غرائزه ومصالحه.
خروج الكلام الأكثر إثارة للجدل مما تتداوله العامة والخاصة في الغرف المغلقة الى العلن، لا يشكل وصمة عار على قائله. فمن يتابع موازين القوى يعرف ان المواقف النارية والاستفزازية التي يطلقها الأقوياء بعضلات غيرهم، تدعم الرصيد وتغذيه.
وأي سقوط لهذا الطرف أو ذاك، لا يكون بسبب زلات اللسان الفالت على المواقف المحركة للغرائز وانما بسبب سقوط ورقته، اذا آن أوان استبداله بآخر يلبي المشاريع المطلوبة لهذا المحور أو ذاك. والا فلتبق التسوية متينة على الرغم من تبادل القصف في التصريحات والتعيينات وتناتش المكتسبات في الحديقة الخلفية لهذه التسوية.
أي اعتراض على موازنة انتفاعية لا تمس منابع الهدر التي تصب في جيوب من استووا على عرش السلطة بفضل التسويات السياسية، لا يقدم او يؤخر.
أي استهجان لواقع القضاء المنخور بنفوذ المرجعيات السياسية وبفساد الذين يلمون بمنافع استثمار الحسوبيات ومصادرة حريات أصحاب الأصوات التي تزعج السلاطين الجدد، سيبقى هباءً منثوراً ما دام كل من في السلطة يحسب انها ستدوم له ويبني مملكته على هذا الأساس.
وأي مسارعة الى شن هجوم على مواقف تهدد السلم الأهلي تبقى من دون صدى يتناسب وحجم انزلاق لبنان الى درك قد يصعب الخروج منه من دون انفجارات تنسف ما هو موجود لتلزم الجميع البحث عن صيغ جديدة تناسب القوى الإقليمية المسيطرة، أياً تكن المعادلات التي سيفرزها الصراع الإقليمي.
التسلسل التاريخي منذ اندلاع الحرب اللبنانية وارسائها موازين قوى جديدة ومرتهنة دائماً لخارج قوي، يؤكد ان ما يجري اليوم لا يختلف بشيء عما سبق.
لذا الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان متجدد وفق معادلات الحروب الصغيرة والكبيرة المتعاقبة على هذا البلد، وليس جديداً بالتأكيد.