صعود الرئيس رفيق الحريري الى أعلى السلم في علاقاته الشخصية مع النظام السوري بشخص الرئيس حافظ الاسد، وفق ما ورد في الحلقة السابقة، بناء على معطيات توافرت لـ"النهار" من شخصية سياسية لبنانية بارزة، هي تعيش حاليا في الخارج بعيدة عن الاضواء، مضى قدما في الثمانينات ومعظم عقد التسعينيات من القرن الماضي. وكانت قوة الدفع الرئيسية لهذا الصعود هو الدور الذي محضه العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز للحريري منذ تربعه على عرش المملكة في 13 حزيران 1982 والذي امتد عهده الى الاول من آب عام 2005 أي الى ما بعد إستشهاد الحريري في 14 شباط 2005. لكن زمن هبوط الحريري من أعلى السلم السوري بالتزامن مع بدء نهاية حياة حافظ الاسد وذلك قبل وفاته بعاميّن، أي عام 1998 .
كتب الكثير عن مسيرة الحريري السياسية في لبنان والتي طبعت هذا البلد بآثار لم تمح حتى اليوم. لكن الشخصية السياسية اللبنانية البارزة تتوقف عند تطور كبير حصل عام 1998 والذي مثّل مفترقا داخليا رافق الحريري حتى غيابه بعد سبعة أعوام، فتقول:
بعد إنتخاب قائد الجيش إميل لحود رئيسا للجمهورية في 24 تشرين الثاني عام 1998 خلفا للرئيس الياس الهراوي، كانت زيارته الاولى الى خارج لبنان هي لدمشق كي يشكر الرئيس حافظ الاسد على الدعم الذي منحه إياه كي يصل الى الرئاسة الاولى. وعرّج في ذهابه الى العاصمة السورية على مقر قيادة القوات السورية في البقاع كي يرافقه الى القصر الرئاسي السوري رئيس جهاز الامن والاستطلاع في تلك القوات، حاكم لبنان العسكري فعليا العميد غازي كنعان. وتم اللقاء بين الاسد ولحود والذي إنتهى الى الحوار الاتي:
الاسد: الان، بعد أن انتهينا من الانتخابات الرئاسية، أتى دور تأليف الحكومة الجديدة. بالطبع سيكون رفيق الحريري رئيسا لها.
لحود: أعتقد ان الرئيس سليم الحص مناسبا.
الاسد: الحص كويّس وآدمي. لكن الحريري هو الانسب.
لحود: الرئيس عمر كرامي ممكن أيضا أن يكون رئيس الحكومة .
الاسد: عمر كرامي عسلامتو. بس الحريري لازم يكون رئيس الحكومة.
تضيف الشخصية مصدر هذه المعلومات: كان واضحا ان الرئيس لحود عازم على ان لا يكون الحريري رئيس اول حكومة في عهده. واوعز مساعدو الاسد بطلب منه الى كنعان لكي يتولى إقناع لحود خلال مرافقته في رحلة العودة الى لبنان بالتراجع عن موقفه من الحريري. لكن كنعان لم يصل الى أية نتيجة طوال الفترة التي إستغرقتها الرحلة ما بين دمشق وسهل البقاع قبل ان يترجل من سيارة الرئيس الجديد للجمهورية في لبنان، فيما مضت السيارة بالرئيس لحود الى قصر بعبدا.
وتروي الشخصية نفسها نقلا عن كنعان فيما بعد، انه عجز كليا عن إقناع لحود بالنزول عند ما طلبه الاسد. وأضافت ان لحود لم يكن يتصرّف من تلقائه، بل كان يعبّر عن إرادة الحاكم الفعلي وقتذاك لسوريا، بشار الاسد الذي إنتقل اليه ملف لبنان بموافقة من والده في وقت كان الاخير يتراجع صحيا فيما بدا ان حافظ الاسد صار على مسافة قريبة من الموت.
كيف كان الاخراج حتى تمّ إزاحة الحريري عن رئاسة الحكومة؟ من المفيد هنا إيراد ما قاله خدام في المقابلة الشهيرة التي أجرتها معه قناة "العربية" الفضائية في باريس بعد إنشقاقه عن نظام بشار الاسد في نهاية العام 2005 : كانت علاقة الرئيس الحريري مع الرئيس حافظ الاسد قوية جدا. كان الرئيس الاسد حريصا جدا على نجاح الرئيس الحريري الذي قدّم خدمات كبرى لسوريا في العلاقات الدولية، في العلاقات مع الغرب بشكل عام ومع فرنسا بشكل خاص، وفي العلاقات مع السعودية فهو الى حد كبير مارس الدور الذي لم يمارسه وزير خارجية سوريا آنذاك... وكانت الاتصالات بينه وبيني شبه يوميا، واللقاءات مع الرئيس الاسد مرة أو مرتيّن كل شهر...
بدأت الحملة على الرئيس الحريري عام 1998 ، وقد حماه منها الرئيس الاسد... أثناء الاستشارات النيابية (لتسمية الرئيس المكلف بعد إنتخاب رئيس الجمهورية ) كانت هناك أصوات فوّضت الرئيس لحود الاختيار إعترض الحريري وأختلف مع لحود حول هذا الامر. هنا يتصل غازي كنعان بالرئيس حافظ كما فهمت فيما بعد، وأبلغه ان الحريري يطلب إعادة الاستشارات ويريد أصواتا موازية لأصوات الانتخابات الرئاسية للحود، وأن الذي أبلغه بذلك محسن دلول بناء على طلب الحريري. في الواقع إنزعج الرئيس الاسد (وعلّق قائلا): شو هالولدنة ! وقال لغازي: بدّو يعتذر فليعتذر! وقد بلّغ كنعان (الحريري) الاعتذار. أنا فيما بعد سألت(خدام) الحريري فقال هذا الامر لم يحصل. ثم تكلمت مع دلول فقال لي أنا لم أتكلم أبدا مع غازي. ثم مرّ عليّ كنعان فسألته ما هو الموضوع؟ فأجاب: "طلب مني بشّار(الاسد) أن أبلغ الرئيس (الاسد) أن هذا (الحريري) ضارب رأسه ويريد إعادة الاستشارات. وسألته: هل أبلغت (الرئيس الاسد) هذا الكلام؟ فأجاب نافيا. فقلت له لماذا قمت بما قمت به، أجاب: ليس بمقدوري أن أكون بيّن ناريّن. وإذا ما بلّغت لا أستطيع أن أتحمّل حملات بشار..."
الحقبة الممتدة ما بين 1998، عندما بدأ نفوذ بشار الاسد يتأسس في سوريا ولبنان معا تحضيرا لملء الفراغ الوشيك الذي سيتركه حافظ الاسد الذي غاب عام 2000 ، وما بين عام 2005، عندما تقرر إلغاء رفيق الحريري جسديا، كانت تعني نهاية مرحلة وصل فيها الاخير الى ذروة أدواره لبنانيا وخارجيا. وتروي الشخصية اللبنانية مصدر معطيات هذه المقالات، أن هناك نصائح ممن هم في دائرة الاصدقاء للحريري أسدوها اليه عندما شعروا بحجم الضغوط التي بدأ يمارسها فريق الاسد الابن على الحريري كي يتنحى عن السلطة طواعية ولو على قاعدة تداول السلطة، لكن الحريري لم يتقبل تلك النصائح. وعندما رفض الطريقة التي إعتمدها فريق الرئيس لحود للتكليف عام 1998، شرع الحريري في التحضير للنزال الانتخابي عام 2000 فكان له ما أراد من فوز باهر، وعاد الى السراي فوق صهوة الحصان الابيض لذلك الفوز. فهل كان لهذا الفوز أن ينهي مشكلة علاقة الحريري مع وريث الاسد؟
الجواب بالتأكيد هو بالنفي. وكشفت الشخصية اللبنانية ذاتها عن العطاءات التي قدّمها الحريري لبشار الاسد عندما كان الاخير في الحرس الجمهوري منذ بداية كانون الثاني عام 1998 لغاية وفاة والده في حزيران 2000. لكن كيمياء الود أيام حافظ الاسد إنقلبت الى كيمياء الجفاء أيام بشار. وإنسحب ذلك على الفريق اللبناني الذي أحاط ببشار بدءا من العام 1998 .
وفي هذا السياق، يقول خدام ان الحريري حتى لحظة وفاته كان يأمل في التصالح مع بشار الاسد فالحريري كان رجل حلول وليس رجل مواجهة صارت عليه حملات كثيرة فلم يواجهها إلا بالحلول لكن الحريري كان يخيفهم في قدرته على إستقطاب الناس....
في 12 شباط 2005، وكان يوم سبت، إلتقى خدام في مكتبه في دمشق الصديق المشترك الذي كان فاتحة صداقة نائب الرئيس السوري مع الحريري في النصف الاول من ثمانينات القرن الماضي، وطلب اليه نقل رسالة شفهية عاجلة الى الحريري في بيروت كي يغادر لبنان على وجه السرعة لإن هناك خطرا يحدق به. وبالفعل إجتمع الصديق المشترك في اليوم التالي، أي الاحد 13 شباط 2005 مع الحريري في قصر قريطم وأبلغه الرسالة. وفي اليوم نفسه، إتصل خدام هاتفيا بالحريري وسأله: هل إجتمعت بفلان (الصديق المشترك)؟ فأجاب الحريري إنه إلتقى فعلا برسول خدام فعلم الاخير ان رسالته قد وصلت. لكن الحريري، بعد ذلك لم يحزم حقائبه للسفر، بل أعدّ جدول نشاطات لليوم التالي، أي الاثنين 14 شباط 2005. لكن هذا اليوم كان هو الاخير في حياته.
ردا على سؤال للشخصية اللبنانية عما إذا كان يعتقد أن بشار الاسد متورطا بجريمة إغتيال الحريري قبل 15 عاما، على رغم ان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تستعد لإعلان لإصدار حكمها بإدانة أفراد في "حزب الله" ؟ فاجابت: "لا يمكن أن تقع جريمة بهذا الحجم من دون علم الاسد على الاقل. "وأعطت دليلا، هو بحوزة المحكمة الخاصة منذ فترة طويلة، يثبت ان النظام السوري شريك فعلي في إنفجار عام 2005، هو أن اللواء آصف شوكت مدير الاستخبارات العسكرية السورية كان في 14 شباط 2005 في أحد الفنادق القريبة جدا من مسرح الانفجار قرب فندق السان جورج.
ماذا عن خدام وأسراره التي لم تعلن حتى الان؟ تتبع حلقة جديدة.
احمد عياش - النهار