يعرف حزب الله أنّه ليس هناك إجماع على سلاحه في لبنان، لا بل هو يعترف بذلك وقد اعتبر أمينه العام خلال المقابلة التلفزيونية في 25 أيار 2020، أنّ الاجماع حول المقاومة مفقود في لبنان ليس من الآن بل ومن العام 1982، وهو كرّر ذلك في خطابه السبت 7 الشهر. لكن الحزب يكابر على اتساع عدم الاجماع على سلاحه ويصوّر أي اعتراض عليه على أنّه فتنة ضدّه، كما حصل في الأيام القليلة الماضية عندما رُفع شعار "رفع الاحتلال الإيراني" خلال إحياء ذكرى ضحايا انفجار المرفأ في 4 آب، أو عقب اعتراض أهالي بلدة شويا على تمركز راجمة صواريخ للحزب في بلدتهم.
هذه المكابرة من جانب الحزب ليست عفوية بالطبع، بل هي بمثابة ركيزة استراتيجية في حركته السياسيّة والأمنية. ولعلّ العنصر الأساسي في هذه الإستراتيجية اعتبار الحزب أنّ انسحاب القوات الاسرائيلية من جنوب لبنان العام 2000 لم يبدّل شيئاً في واقع المقاومة. أي أنّ الأخيرة لم تنتف بانتفاء الإحتلال. وللتذكير فإنّ النظام السوري اعتبر أنّ الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب كان موجّها ضدّه لأنّ المراد منه إسقاط نظرية "وحدة المسار والمصير"، أي نزع ورقة الجنوب اللبناني من يد النظام السوري. وسرعان ما أخرجت ورقة مزارع شعبا على أنّها لبنانية كذريعة لاستمرار "المقاومة" بينما النظام السوري لا يعترف بلبنانيتها بل ويعتبرها سورية كما سرّب عن رئيسه أخيراً. أي أُبقيت هوية هذه المزارع متأرجحة لكي تستخدم غبّ الطلب.
والأساس في هذا الموضوع أنّ الحزب يريد ربط سلاحه بالمقاومة. وبالتالي فمن يعارض تمسّكه بسلاحه فهو يعارض "المقاومة" ضدّ إسرائيل، وليس السلاح الذي ينخرط في حروب المنطقة ويُستخدم في الداخل اللبناني تحت حجّة "السلاح دفاعاً عن السلاح"، كما قال السيّد نصرالله في أيّار 2008.
في المقابل فإنّ غالبية اللبنانيين لم تعد تربط بين هذا السلاح وبين مقاومة إسرائيل بعد العام 2000، وبالتالي فهي تعتبر أنّ هذا السلاح يفترض أن يسلّم للدولة التي يجب أن تحتكر قرار الحرب والسلم وأن "تحتكر العنف" بحسب تعريف ماكس فييبر، وإلّا فهي دولة منقوصة السّيادة.
وهذه الإشكالية الوطنية الكبرى المتمثلة بالتناقض الكبير بين تمسّك حزب الله بسلاحه بتأييد من جمهور كبير داخل طائفته وبين اعتراض فئات لبنانية سياسية وطائفية على هذا السلاح، ليست إشكالية ثابتة لا من طرف الحزب ولا من طرف معارضيه.
أي أنّ مقاربة كل من الحزب ومعارضيه لهذه الإشكالية تتطوّر بحسب الظرف السياسي الاجتماعي في لبنان والمنطقة، وهو ما يحصل الآن. إذ أنّ الظرف الإقليمي وتبعات الإنهيار المالي في لبنان دفعا الحزب إلى إرساء معادلة سياسية وإعلامية مدافعة عن السلاح بوصفه "مقاومة". لا بل أكثر من ذلك فهو وضع هذا السلاح في موقع دفاعي إزاء تعرّضه لضغوط خارجية وداخلية، ومن ذلك قول الحزب إنّ لبنان محاصر بسبب رفض العرب والغرب لهذا السلاح. بينما في المقابل فإنّ الانهيار المالي غير المسبوق في تاريخ لبنان والذي يسبّب ويلات اجتماعية كبرى فاقم من المعارضة اللبنانية للحزب إلى حدود غير مسبوقة.
فاتّسعت حركة الاعتراض على سلاح الحزب باعتبار أنّه حوّل لبنان ورقة بيد إيران تفاوض بها الأميركيين والأوروبيين. وهو ما أرجع لبنان ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية مع ما يستجلبه ذلك من تضييق مالي واقتصادي عليه بسبب موقف الغرب والعرب من سلاح الحزب ومن السلطة التي أنتجها في لبنان منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
بالتالي فإنّ الإنهيار أسقط المساكنة المضمرة مع الحزب والتي كانت سائدة طيلة الفترة الماضية، ما دام "البلد ماشي والشغل ماشي". لكن الآن تبدّل الوضع وبدأ الشرخ يتعاظم بين الغالبية اللبنانية من اتجاهات سياسية وطائفية مختلفة وبين الحزب، لأن هذه الغالبية بدأت تتهمّ الحزب بتعريض لبنان لمخاطر أمنية واقتصادية، ولأنّها وجدت نفسها مضطرة للعودة إلى السياسة، لأن استعادة الإستقرار المعيشي والأمني بات مسألة حيوية بل ووجودية بالنسبة لها، وهذا متغيّر أساسي منذ 17 تشرين الأول 2019.
هذا المتغيّر هو ما يفسّر رفع شعار "رفع الاحتلال الإيراني" في 4 آب 2021. فهذا الشعار يعبّر عن التسييس الأقصى للحركة الشعبية، التي تطرح من جديد إشكالية سلاح حزب الله، بين الحزب الذي يعتبره مقاومة، والغالبية اللبنانية التي تعتبره ورقة بيد إيران التي تموّله باعتراف السيّد نصرالله.
ولا شكّ أنّ الحزب يشعر بوطأة سقوط "المساكنة" الشعبية مع سلاحه، لكنّه لا يزال حتّى الآن يهرب إلى الإمام ساعة بتصوير الاعتراض الأهلي عليه على أنّه فتنة وساعة بتصويره تآمراً خارجياً وداخلياً عليه. بينما الحقيقة أنّ اللبنانيين باتوا أقدر، في ظلّ الإنهيار الخطير، على تعيين مكمن الإختلال الرئيس في الواقع السياسي والاجتماعي الاقتصادي اللبناني، والمتمثّل بتحويل لبنان ساحة للصراع/ التفاوض الإقليمي والدولي على حساب حياه أهله.
لا شكّ أنّ الحزب لن يعترف بهذا الواقع الجديد، لكنّ عدم اعترافه بالواقع لا يعني أنّه قادرٌ على تغييره!