يسع المرء أن يودّع لبنان وداعاً لا لقاء بعده. البلد يفقد حظوظه حتى في أن يعود دولةً بعدما شطر العهد العوني القضاء إلى اثنين: واحد يُعنى بالشأن المصرفي، والآخر أُنيط به تدبيج "الاتّهامات الجنائية" على غرار الأجهزة القضائية في الأنظمة الشمولية.
الأوّل حملت مطرقته القاضية غادة عون، وأمّا الثاني فقد جلس على قوسه القاضي طارق البيطار. وكلٌّ منهما اشتغل في السياسة ومتنها. وكلاهما يؤخّران النصوص القانونية الإجرائية ويقدّمان المصلحة السياسية "العونيّة".
على كلٍّ، هذه السياسة سيرة أصليّة من سيَر رئيس الجمهورية السابق ميشال عون. يشهد بذلك تاريخه القديم والحديث، إذ لطالما أخّر الأفكار لصالح تحقيق الأحلام والمصالح الشخصية والعائلية.
لم يكن من حسن الفطن أن يباشر النائب جبران باسيل مرافعته الدفاعية عن ثنائي عون ـ البيطار بالكلام عن حرب على الفساد. فما يفعله القاضيان هو حرب فساد سياسية على سياسيّين. وقبل هذا وبعده، فهو مُدرج على لوائح عقوبات سيحرق البلد ومن عليه للخروج منها.
يقول باسيل، ويريدنا أن نصدّق، إنّه يخوض حرباً على الفساد فيما هو لا يردّ على أسئلة اللبنانيين عن السدود وهدرها، ولا عن سبب تهديده المستمرّ من فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات عليه بتهم فساد.
الإعجاب بغادة عون
الأكيد أنّه ليس لدى المصارف اللبنانية تاريخ ناصع ليدافع عنها المرء. النظام المصرفي اللبناني كان معتلّاً منذ قضية بنك إنترا. ليبرالية النظام المصرفي في لبنان كلّها بحاجة إلى إعادة تقويم للتأكّد بشكل حاسم من قدرتها على أن تكون من أعمدة الاقتصاد.
كان يمكن للمرء أن يُبدي "إعجابه" بالقاضية غادة عون لولا أنّ تعقّباتها انتقائية، ولا تتحسّب لكلفة الهجوم على المصارف تحت شعار تبييض الأموال الذي يهدّد علاقة الأخيرة بالمصارف المُراسلة. حربها العبثية هذه ستقطع آخر صلات لبنان بالخارج.
هي أصلاً مختصّة باستهداف المسيحيين من غير العونيين. لم تترك سلوكاً "ميليشيويّاً" إلا وسارت في مسالكه: حيناً تذهب للبحث عن حاكم المصرف المركزي. أحياناً أخرى تستهدف "صرّافين" بعينهم يواكبها "عونيون".
وكذلك فعلت القاضية مع شركة "سوناطراك". هاجمت شركة الراحل ميشال مكتّف لا لشيء إلا لشراكته في صحيفة "نداء الوطن" المعارضة للعهد. أداؤها هذا لم يفعل غير زيادة معدّلات التوتّر بالأسواق الماليّة المتصدّعة أصلاً.
التيار والقضاء وأوجه الشبه
في عهد الرئيس السابق ميشال عون تحوّل القضاء إلى شبيه "التيّار الوطني الحرّ" في كراهية كلّ آخر. لقد صار القضاء منصّة "ادّعاء" تحت عنوان محاربة الفساد، لكنّه يتحرّك غبّ الطلب وانتقائياً. فمثلاً هو لا يريد أن يرى فساد وزارة الطاقة المهُول، ولا غيره في سائر الوزارات والمديريّات والمؤسّسات. الآن عمله منصبّ على تصفية الحسابات السياسية.
حين كان الجميع على طاولة مجلس الوزراء لم تحرّك العونيّة ولا القضاء ساكناً. ولم يرِد الحديث عن المصارف وأدوارها في البلد. ولم يتمّ البحث قبل "ثورة 17 تشرين" في إعادة النظر في النظام الاقتصادي على نحو يعزّز الإنتاج ويخلق فرص عمل. لقد بقيت محوريّة المصارف هي الأساس الحاكم، إلى أن كان ما كان.
الآن، ما إن يخفت نجم القاضية عون حتى يلمع ضوء القاضي البيطار، وذلك في تناوب رهيب على إصلاء كلّ مختلفٍ شائعات واتّهامات من طبيعة همايونيّة. استدعاءات البيطار العشوائية والانتقائية تتحدّث بفصاحة عن "فظاظة" القضاء وتحوُّله إلى عصا غليظة.
لم يخالف القاضي طارق البيطار في مسيرته مسار قرينته غادة عون، حتى في "الاستثمار الطائفي"، وعبر أهالي ضحايا انفجار المرفأ. فقد جعل من هذا الانفجار "مأساة" مسيحية لا وطنية. لم يبدِ أيّ حرص على سمعة القضاء بقدر ما كان همّه أن يتصدّر اسمه النشرات الإعلامية والاجتماع إلى بعض الصحافيين ليسقط في "وحول المصادر المُطّلعة" مسرّباً تهويلات وتهديدات زادت طين الاستدعاءات بلّةٍ.
إسقاط القضاء العوني
كاد لبنان بسبب من أداء البيطار بعد لقاءاته سفراء أن يستعيد شيئاً من حربه الأهليّة، لولا أن ضبط حراكه مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات الذي أوقف "التحقيق السياسي" وليس "التحقيق القضائي".
حدود صفيقة وصمّاء صارت تفصل السياسيين وكبار الموظّفين العونيين عن القوانين اللبنانية. ما يقوم به هؤلاء صار أكثر من كيديّات سياسية. لقد بلغ حدّ إعطاب كلّ شيء ممكن أن يعطي للبلد حظّاً من حظوظ الحياة. في الحكم يريدون السلطة كأكثرية. في المعارضة يريدون من الأكثرية أن تحكم بكتابهم، وإلّا تكون الشراكة منقوصة والعيش المشترك مُهدّداً. ما لا يريد هؤلاء إدراكه أنّهم لم يعودوا ثلثاً مُعطّلاً بل صاروا عبئاً مُعطّلاً يعطب حتى العيش المشترك.
مع بلوغ حال كهذا من "الأداء القضائي" صار لزاماً إسقاط "القضاء العوني" وإخراجه من الحياة القضائية. لقد رأينا الكلفة الباهظة في القضاءين "المصرفي" و"السياسي"، ذلك أنّ تصلّب شرايين النظام السياسي اللبناني يزداد تصلّباً مع تعقّد تركيبة التنازع الطائفي. وهذا ليس للقول إنّ إسقاط الطائف يحتلّ موقعاً عند هذا الفريق أو ذاك، لكن فقط للإشارة إلى أنّ أعصاب البلد وهنت إلى حدٍّ بعيد جدّاً. ولمن لا يُصدّق فليستعِن بكثير من السذاجة بـ "التاريخ الأهليّ" للبنان، قريبه وبعيده.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا