"سأطبع قبلة رأس السنة على خدّ شابّ من لبنان، فنّان، مثقّف، خدم بلده بقلبه ودمه وروحه. شاب أنشأ فرقةً فولكلوريةً اجتذبت السيّاح إلى البلاد، وأحيا مهرجاناً استقطب الألوف إلى مشاهدته، ومثّل بلده في حفلات رسمية إمبراطورية، واستطاع أخيراً أن يرفع العلم اللبناني فوق مسرح الأولمبيا في باريس، وفوق عدد كبير من مسارح إيطاليا وألمانيا والنمسا. إنّه الصديق الغالي روميو لحّود"، بهذه الكلمات تحدّثت الشحرورة صباح عام 1968 عن روميو لحود، فبماذا نودّعه اليوم؟
ليس مغامرةً القول إنّ لبنان اليوم، مع رحيل الفنّان روميو لحود، يغنّي له: "خدني معك خدني على بلاد الهوى... قلبي انجرح من هالدني وعمري انطوى...". روميو لحّود بذائقته الفنّية والثقافية واحد من أعمدة الزمن الرفيع في لبنان، زمن المسرح والسينما والمهرجانات والأغنيات التي من كلام وموسيقى صنعت مجد لبنان، زمن أعمدة بعلبك وقناطر بيت الدين وأضواء بيروت ونوافذها المشرّعة على كلّ فنّ، أعلن أنّ هذا البلد منارة الشرق والغرب بتنوّعه وانفتاحه وملامسة هموم البشرية بعيداً عن أيّ نصّ أيديولوجي أو نظريّ.
موت مجد
كلّ شيء في لبنان يسقط. صارت هذه البلاد أقرب إلى نعيٍ لا يتوقّف. اليوم ذهب روميو لحود. قبله سبقهُ كبارٌ صنعوا مجد لبنان وتنوّعه الثقافي والحضاري. لبنان كلّه سقط. الراحل كان من قماشةٍ نادرةٍ. رحل إلى "يوم أزرق غاب". كما نعتته كارول سماحة قائلةً: "تركتنا ورحت ع درب بعيدة".
عن 92 عاماً غادرنا روميو لحود، وانضمّ إلى قافلة الراحلين ونحن نخطو أعتاب مئويّة لبنان الأولى.
ليس عاديّاً اعتبار أنّ روميو لحود مات صدفةً اليوم، في ذكرى عيد الاستقلال اللبناني. فابن البيت السياسي والعائلة السياسية نحا منذ فنون عدّة نحو استقلال حقيقي من نوع آخر. استقلال لا عسكر فيه ولا جلاء ولا حكم ولا سياسة. استقلال من كلمات وألحان وموسيقى ومشاهد وديكورات ومهرجانات وأفلام.
الراحل مخرج ومصمّم استعراضات وكاتب كلمات وملحّن، وهو صانع "مجد" الفولكلور اللبناني وأوّل من أطلق "المسرح الدائم" في لبنان عبر الاستعراض الضخم "موّال" الذي استمرّ عرضه لمدّة أحد عشر شهراً.
لحود هو أبرز من تعاون مع الفنّانة صباح ما بين منتصف الستّينيات وبداية السبعينيات، ومن أبرز ما نتج عن تعاونهما "فينيقيا 80" التي حملت رسائل سياسية إلى الشخصيات السياسية التي كانت تشاهد المسرحية، ومن بينها الرئيس كميل شمعون. تقول حكاية يرويها بعض من عايشوا تلك المرحلة إنّه في أحد العروض نزلت صباح عن المسرح لتلقي التحيّة على شمعون.
صانع الأسماء ومُطلق النجوم
يغيب روميو لحود اليوم، وتحضر أسماء كثيرة صنع معها ومنها فنوناً كثيرةً، بدءاً من جبران خليل جبران وسعيد عقل، مروراً بالرحابنة والشحرورة ووليد غلمية ومجدلى وسلوى القطريب، وصولاً إلى موريس عوّاد وزكي ناصيف وعصام رجّي وملحم بركات ويونس الابن.. وغيرهم. أسماء يمرّ أمامك تاريخ الوطن وأنت تتلوها، تاريخ لبنان الحقيقي الذي لا يكون بسواها.
كانت الانطلاقة من العائلة، من البيت، من مدرسة الحكمة حيث تفتّحت موهبة الرسم لديه على يد أستاذه قيصر الجميّل، لكنّه سرعان ما انصرف عنه نحو هندسة الديكور التي نال إجازة فيها من جامعة "بوزار" في فرنسا، ثمّ نحو المسرح متخصّصاً في إيطاليا في السينوغرافي ميكانيك، في معهد مونتكامودزو، قبل أن يعود إلى بيروت واضعاً لمساته على محالّها وبيوتها، ومشاركاً في إنشاء قصرها الفنّي قصر الأونيسكو.
لمع روميو لحود بدءاً من عام 1963. ومن بعلبك، حيث يولد الفنّانون كباراً ثمّ يتعملقون، من "الشلال"، انطلق برفقة الشحرورة صباح وجوزف عازار وسليم الجردي وسمير ياغي وسمير يزبك وإيلي شويري وغيرهم. ومن "الشلال" إلى "موّال" في مسرح فينيسيا، فـ"ميجانا"، فـ"القلعة" التي حالت حرب حزيران 1967 دون عرضها، فعُرضت في العام التالي ضمن فعّاليات مهرجانات بعلبك، ومنها إلى صالة أولمبيا الشهيرة، حيث رفع العلم اللبناني للمرّة الأولى فوق المسرح الشهير عام 1969.
روميو لحّود وناديا تويني
في العام التالي قدّم روميو لحود مجدلى ضمن مهرجانات بعلبك الدولية في مسرحيّة عنوانها "الفرمان"، ألّفتها الشاعرة ناديا تويني وشارك في تلحين أغانيها زكي ناصيف.
لم يتوقّف روميو لحود عن الإنتاج، ولم ينقطع يوماً عن الفنّ، وبقي طوال الحرب الأهلية يقاتل على طريقته ويتنقّل بين المسرح والسينما والأغنية واللحن، وكأنّه كان البوصلة التي حبّذا لو تبعها المتقاتلون.
من "فينيقيا 80" المقتبَسة عن "عواصف" جبران خليل جبران، فـ"ملكة الحب"، ثمّ "مين جوز مين"، و"الفنون جنون"، و"سنكف سنكف"، وصولاً إلى كازينو لبنان فجرش فمهرجانات جبيل فمسرح الفنون الجميلة في بروكسل في بلجيكا، وغيرها الكثير من المحطّات، مسيرة ملؤها الفنّ والإبداع أمضاها روميو لحود متنقّلاً على ظهر الكلمات وفي بواطنها من لحن إلى لحن، ومن خشبة إلى خشبة.
لحّود يا وجع العمر وهمّ السنين
أطلق روميو لحود الفنّانة سلوى القطريب في منتصف السبعينيات في أجمل أغانيها، واستمرّ التعاون بينهما في السنوات العجاف، فكانوا يطلقون الفرح في زمن الحرب ويتحدّون الرصاص والموت. كتب ولحّن للراحلة سلوى القطريب، التي لُقّبت بفراشة المسرح اللبناني، أغنية تناولت الهجرة اللبنانية، فتساءل من خلال أبياتها وكلماتها عن الأسباب التي تدفع الناس إلى الهجرة قائلاً: "خلف البحر شو في تـالناس بتسافر؟". في رحيل سلوى المباغت عام 2009، قال روميو لحود يوماً: "سلوى كالسعادة... لا نعرف قيمتها... إلا عندما نفقدها".
ولد لحود في كانون الثاني 1930 في بلدة حبالين بقضاء جبيل، وعمل خلال مشواره على إحياء الفولكلور اللبناني وتطويره من خلال العروض المسرحية والرقصات الاستعراضية التي ما زالت مطبوعة في ذاكرة الجمهور. تلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة القدّيس يوسف في عينطورة، ثمّ في مدرسة الحكمة، وسافر إلى باريس لتعلّم الرسم، لكنّه عدل عن مشروعه والتحق بجامعة "موزار" لدراسة هندسة الديكور، غير أنّ عشقه للمسرح والأوبرا دفعه إلى متابعة دروس في علم المسرح أو ما يُسمّى "سينوغرافي ميكانيك" في معهد مونتكامودزو في إيطاليا.
مُبدع بعناوين كثيرة
توزّع الكثير من مسرحيّاته على خشبتَيْ الإليزيه وكازينو لبنان، وأبرزها: بنت الجبل في عام 1977، اسمك بقلبي في 78، أوكسيجين في 79، ياسمين في 80، نمرود في 81، حكاية أمل في 82، الحلم الثالث في 83، وصولاً إلى ليالي زمان في ريجنسي بالاس، وياسمين 2 في مهرجانات بيبلوس في عام 99. أمّا آخر ما عرضه فكان استعادة "بنت الجبل" مع ابنة أخيه ناهي المغنّية والممثّلة ألين لحود. على الرغم من بعض مشاركاته المسرحية في مرحلة التسعينيات، لكنّه كان شبه متقاعد.
موتٌ يصاحب موت وطن
يغادرنا روميو لحود اليوم وكأنّه يشير لنا بموته إلى حياته التي عاشها في لبنان وتركها وراءه، علّنا نتذكّر اليوم أنّ وطناً جميلاً من أنغام وحروف وقامات وجبال وأعمدة كان هنا، وسيبقى في ما خلّفه روميو والكبار من أمثاله.
روميو لحود الفنان اللبناني الوحيد الذي شارك في الحفل الإمبراطوري لتتويج شاه إيران، وراح ينكفئ تدريجياً مع انكفاء لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي وبروز قوى وأحزاب ترذل الفنّ ولا تقبل إلا بأصناف منه تسير في فلكها وتحت ناظرَيْها.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا