أحقاد جبران باسيل بلغت الزُبى. لم ينجو منها أحد من الشخصيات المسيحية المارونية. في الشكل يرفع شعار حقوق المسيحيين. لكنه يُبدد كل قوة أو تميًز يتجاوز شخصه وفي أية وزارة كان. كل معاركه تقول ذلك. أهمها تلك التي نظمها ضد قائد الجيش العماد جوزف عون مع اندلاع ثورة 17 تشرين الأول. حينها كان هم صهر الرئيس "فتح الطرقات المقطوعة" ليتيسر للناس الذهاب الى أعمال فقدوها بفعل سياساته الخارجية مصحوبةً بعنتريات حزب الله وسُبابة أمينه العام حسن نصر الله والمرفوعة أبداً ودائماً ضد الدول العربية والشرعية الدولية ، والتي لا تلبث أن تنطوي أمام الضربات الإسرائيلية ليكتفي بالرد عليها بمشاهد سينمائية ترعاها هذه الدولة أو تلك.
المستجد الآن في حروب جبران باسيل هو استهدافه المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة. وأسوء ما فيها "الشيزوفرنيا" السياسية التي دعا من خلالها اتباعه ليتجمهروا أمام مقر البنك المركزي ويهتفوا ضد الحاكم. دعك من أن التجديد لسلامة وفرته غالبية حكومية تابعة للرئيس وصهره. لكن ما ينبغي التوقف عنده هو الكيفية التي أدار بها "الغضبة" المستجدة ضد المصرف والحاكم والسياسة النقدية. ذلك أن مثل هكذا أمر لو صدر عن حزب معارض لكان مبرراً ومفهوماً ، لا بل يملك حيثية الضرورة في النظام البرلماني الديموقراطي. لكن ما ليس مفهوماً على الإطلاق أن تكون هذه "التظاهرة" في أكثر الظروف حراجةً وأشدها دقةً، أي في خضم انهيار اقتصادي ووجودي بكل معنى الكلمة، وخلال مفاوضات حساسة مع صندوق النقد الدولي.
المُستتر في "عراضة" العونيين في شارع الحمرا هو السعي الحثيث للإطاحة بشخص سلامة والإتيان بـ منصور بطيش وزير الاقتصاد السابق. ويحصل ذلك بينما البلد كله أمام سؤال جدي حول حظوظه في البقاء على قيد الحياة وعلى خارطة العالم في ظل مأساة فعلية وليس مجرد أزمة. وما جرى وسيجري كله بهدف اقصاء رياض سلامة عن سباق إلى كرسي الرئاسة الأولى، وهو سباق ليس أوانه ، كما انه ليس موجوداً ولا مُلحاً إلا في مخيلة رئيس التيار البرتقالي.
في الأساس فانه من حق رياض سلامة وكل من يجد في نفسه الكفاءة والإمكانية أن يخوض السباق إلى سدة الرئاسة الأولى. لكن في التفاصيل الدقيقة ، فالأكيد أن حاكم المصرف ليس بوارد هذا الأمر راهناً. حتى لو فكر بذلك فإن ما يفصلنا عن موعد الاستحقاق هو ثلاث سنوات. كما أن الوقت الراهن هو الأسوأ، لأن مثل هكذا سباق يستلزم ظروفاً وحيثيات مختلفة تماماً لما يعصف بلبنان واللبنانيين راهناً وعلى المديين القصير والمتوسط. فما أصاب البلد أشبه بجلطة دماغية لم تتبين بعد الآثار التي خلفتها والأعطاب التي انشأتها.
جبران باسيل يخوض معركةً شخصية فيما المصير الجَماعي للبلد وأهله على محك البقاء من عدمه. ذلك أن حاكم المصرف ليس موظفاً مصنفاً في الفئة الأولى التي توجب عليه الإستقالة من موقعه قبل سنتين للترشح لرئاسة الجمهورية. لذلك يفعل باسيل ما يفعله غير آبهٍ بالقعر الذي بلغه لبنان. وحربه الاستباقية هذه هدفها الأول هو منع رياض سلامة من أن يكون "منقذاً " للبنان في ما لو نجح في انتشال البلد، وخصوصاً أن اللبنانيين جميعاً، مؤيدين أو معارضين لحاكم المصرف المركزي، انما يشخص نظرهم لما قد يقوم به الرجل لمنع الجوع من استيطان جمهورية الأرز. فللرجل سيرة مديدة وعميقة في إدارة الأزمات . ويشهد بذلك نجاة لبنان من السقوط على الرغم من كل ما عصف به منذ تسعينات القرن الماضي من حروب مع إسرائيل وصولاً إلى حقبة الاغتيالات وابرزها قتل رجل من وزن رئيس الحكومة رفيق الحريري.
لرياض سلامة ما له، وعليه ما عليه. فلا هو من انصاف الآلهة، ولا هو متآمر يجوب العالم مستغلاً منصبه وموقعه ودوره ليسوق لنفسه على فعل صهر الرئيس الذي لم يترك شيئاً إلا وفعله تسويقاً لذاته. ولم يترك سبيلاً إلا وسلكه. لكن قبل هذا وبعده، فان أحداً لا يمكنه إنكار أن رياض سلامة حقق استقراراً لليرة وسعر صرفها وحافظ بكل ما أوتي من مهارات على القدرة الشرائية لها. والأهم أنه جعل من النظام المصرفي ملجأً لودائع اللبنانيين المغتربين ليحموها من أنظمة الضرائب حيث يعملون، ناهيك عما حققه هذا النظام لهم من تراكمات مالية رفعت من قدراتهم الاستثمارية والمصرفية.
قد يستطيع جبران ان يتلاعب بـ "غرائز" اتباعه وعمه المهووس دهراً للإقامة في بعبدا لبعض الوقت، لكن الأكيد أنه لن يستطيع فعل ذلك طيلة الوقت الذي يفصلنا عن استحقاق الرئاسة الأولى وهو وقت مديد. اللهم إلا إذا كان باسيل يؤكد عن قصد أو غيره من أن مُستقبل عمه صار قصيراً جداً.
كمال الاسمر - كاتب سياسي