عندما ذهب النواب اللبنانيون بطائرة رفيق الحريري إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية خريف 1989، واستُقبلوا كالأمراء مع شعار سعوديّ واضح "ممنوع الفشل"، كان هناك ملفّان على الطاولة: الاتفاق على التعديلات التي يجب إدخالها على الدستور مقدّمةً للخروج من الحرب، والاتفاق (في الكواليس) على أن يكون رينيه معوّض رئيس الجمهورية الجديد.
الطائف وعقدة عون
استمرّت الجلسات النيابية في الطائف نحو شهر. وفي 22 تشرين الأول 1989 صدرت عن النواب المجتمعين في المدينة السعودية وثيقة الوفاق الوطني التي صدّقها مجلس النواب في اجتماع عقده في القليعات في 5 تشرين الثاني 1989. وعلى الفور انتخبوا حسين الحسيني رئيساً لمجلس النواب الذي دعا إلى انتخاب رئيس للجمهورية.
لم ينَل معوّض في الدورة الأولى أكثرية الثلثين، لكنّه فاز في الدورة الثانية بأغلبيّة 52 صوتاً ووُجدت 6 أوراق بيضاء. في اليوم نفسه أقسم معوّض اليمين الدستورية. انتقل معوّض من مطار القليعات إلى دارته في إهدن. من البداية كان يراهن على حلّ مشكلة احتلال ميشال عون قصر بعبدا بالحوار. في إهدن كانت له لقاءات كثيرة، أهمّها مع الرئيس سليمان فرنجية والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير. لكنّ اللقاء الأبرز والأكثر دلالة كان مع وفد سوري رأسه نائب الرئيس عبد الحليم خدّام وضمّ اللواء غازي كنعان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع. قيل إنّ خدّام طلب وضع حدّ بسرعة لظاهرة عون (حسب مجلّة "المسيرة"). ردّ معوّض بأنّه ليس بحاجة إلى استخدام القوّة، ويسعى إلى تشكيل حكومة اتّحاد وطني. وأكّد لخدّام أنّ جميع الوزراء سيكونون من المعادين لإسرائيل ولن يكون في الحكومة أيّ وزير يعادي سوريا.
الاغتيال: سرّ دلّول
قال الباحث تيودور هانف في كتابه "تعايش في زمن الحرب" إنّ سوريا عرضت على معوّض مساعدتها للخلاص من عقبة عون، فأدركت سريعاً تصلّبه وإصراره على إيجاد تسوية سلميّة. ونشرت صحيفة سوريّة مقابلة "صوريّة" مع معوّض، نسبت فيها إليه كلاماً يؤمل سماعه منه: "تقوم العلاقات المميّزة بين لبنان وسوريا على معطيات جغرافية، وروابط القربى والكفاح المشترك ضدّ الاستعمار الفرنسي. لبنان وسوريا شعب واحد في دولتين، وجزء من الأمّة العربية التي مزّقتها القوى الاستعمارية". وأعلن مكتب الرئيس معوّض أنّه لم يعطِ أيّ تصريح ولم تُجرَ معه أيّ مقابلة.
ونقل غسان شربل في مجلّة "الوسط" أنّ عسكريين كباراً من أنصار عون أبلغوا معوّض سرّاً أنّهم لن يدخلوا في أيّ مواجهة مع عهده، وحضّوه على إيجاد مخرج. ويضيف المصدر نفسه أنّ معوّض اغتيل قبل توصّله إلى استنتاج من نوع توجيه تحذير إلى عون أو اعتبار العمل العسكري ضدّه خطوة لا بدّ منها، وأنّه نجح في الحصول على تفهّم الأطراف الخارجية التي كانت تُعتبر داعمة لعون. وقيل إنّ تردّد معوّض في الهجوم على بعبدا كان سبباً في اغتياله من قبل النظام السوري.
فبعد الاحتفال بعيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني عام 1989، أي بعد 17 يوماً من انتخابه، خرج معوّض من القصر الحكومي المؤقّت في منطقة الصنائع. وبعد دقائق قليلة انفجرت سيارة مفخّخة مرّ موكبه قربها. في إطلالة تلفزيونية بعد أيام لم يتردّد الوزير السابق محسن دلول المقرّب من سوريا الأسد، في القول: "إنّ بقايا الجيش الذي كان يقوده ميشال عون تقف وراء اغـتيال الرئيس رينيه معوّض". وفي واحد من مقالاته ذكر الصحافي حسن صبرا: "كنت على باب الوزير السابق محسن دلول يودّعني، ليدور كالعادة ما يسمّى حديث العتبة، فقال لي: بتعرف يا بو أحمد إنو رينيه معوّض يوم مقتله كان يضع في جيبه تشكيلة حكومية تتضمّن اسم ميشال عون وزيراً للدفاع؟". وأضاف صبرا: "فهمت من سرّ دلول عن معوّض أنّه هو من عجّل بقتله، لأنّ حافظ الأسد لم يكن يريد معوّض رئيساً للجمهورية، لكنّه ساير أميركا والسعودية اللتين رحّبتا بمعوّض".
من هو معوّض؟
رينيه معوض الذي عُرِف بانتمائه إلى النهج الشهابي، ترجع علاقته الوثيقة بالرئيس فؤاد شهاب إلى سنوات سبقت تولّي شهاب الرئاسة سنة 1958، عندما اصطدم تشكيل الحكومة بمعارضة قويّة، وكلّف شهاب معوّض مهمّةً لدى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وقد كلّفه مهمّات تمثيل أخرى.
ولد معوّض في 17 آذار 1925 في زغرتا. وبحسب بيان سيرته تلقّى تعليمه الابتدائي في معهد الفرير في طرابلس، ثمّ تابعه في معهد الآباء اللعازاريّين في عينطورة. تخرّج من كليّة الحقوق في جامعة القديس يوسف، وتدرّج محامياً في مكتب دولة الرئيس عبد الله اليافي. دخل المعترك السياسي في عام 1951 وانتُخب للمرّة الأولى نائباً عن منطقة زغرتا-الزاوية سنة 1957 على لائحة حميد فرنجية. وأُعيد انتخابه في الأعوام 1960 و1964 و1968 و1972. وكان قد تسلّم من عام 1961 حتى أواخر عام 1964 حقيبة البرق والبريد والهاتف في حكومة الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وفي عام 1969 تسلّم حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية ثمّ الأشغال العامّة في العام نفسه في حكومتَيْ الرئيس كرامي في عهد الرئيس شارل حلو. وفي عام 1980 صار وزيراً للتربية الوطنية والفنون الجميلة في حكومة الرئيس شفيق الوزان في عهد الرئيس الياس سركيس.
كان بحكم علاقاته الشخصية وبفعل قدرته على التفاوض والحوار من أولئك الرجال الذين يعرفون "قصّة لبنان ومبرّرات قيامه واستمراره، مهما عصفت الرياح وتبلبلت الأفكار. وهو من قماشة الذين اخترعوا لبنان قبل نصف قرن، كبشارة الخوري ورياض الصلح وآخرين، ومن قماشة الذين حفظوا السرّ كفؤاد شهاب والياس سركيس وصائب سلام وتقيّ الدين الصلح ورشيد كرامي وآخرين... وكان رجل الطائف وشهيده"، وهذا حسب غسان شربل.
في 24/11/1989، أي بعد يومين من اغتيال رينيه معوّض، دعا غازي كنعان النواب إلى بارك أوتيل في شتورا لانتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية. وكانت الدعوة بذاتها إعلان تبنٍّ لاغتيال معوّض.
غداً: الياس الهراوي: عهد وصاية "الروح القدس" الأسديّة.
المصادر:
- تيودور هانف، "تعايش في زمن الحرب"، دار الحداثة.
- غسان شربل، "دفاتر الرؤساء"، دار رياض الريس.
- كريم بقرادوني، "لعنة وطن".
*نُشر على صفحة اساس-ميديا