لطالما استُحضر "اتفاق القاهرة" الموقّع بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969 في السجالات اللبنانية للدلالة على تكرار التاريخ لنفسه؛ فبينما "تواطأت" السلطة اللبنانية مع المنظمة الفلسطينية وقتذاك "تتواطأ" الآن مع حزب الله، باعتبار أنّ كلاهما قوتين عسكريتين منظمتين تتحركان على الأرض اللبنانية من خارج الأطر الشرعية للدولة اللبنانية.
الأكيد أنّ جمهور الحزب يرفض رفضاً قاطعاً هذه المقارنة وحجته أنّ الأخير حركة مقاومة لبنانية لا تناقض بين عقيدتها الإسلامية وارتباطها بالجمهورية الإسلامية في إيران وبين وظيفتها اللبنانيّة المتمثلة بالدفاع عن لبنان بوجه الإعتداءات الإسرائيلية، كما قال السيّد حسن نصرالله في خطابه في 7 آب.
لكنّ الأكيد أيضاً أنّ الإشتباك بين أهالي بلدة شويّا في قضاء حاصبيا ومجموعة من مقاتلي حزب الله تمركزوا في المنطقة لإطلاق الصواريخ على مزارع شبعا جعل تذكّر "اتفاق القاهرة" تذكّراً موضوعياً، لكن هذه المرّة من زاوية محدّدة؛ وهي أوجه الشبه بين تعامل أهالي شويّا مع مقاتلي الحزب وتعامل أبناء القرى الحدودية مع الفدائيين الفلسطينيين أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات. ففي الحالتين هناك امتعاض بل ورفض لوضع القرى في حيّز عسكري من دون علم أهلها ولا رضاهم.
هذه هي المرّة الأولى التي يحصل فيها هذا الأمر أقلّه منذ الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب في أيار العام 2000. بالتالي فإنّ تكرار نصرالله في خطابه الأخير مقولة أنّ الإنقسام حول المقاومة قديم وأنّه لم يكن في يوم من الأيام إجماع حولها، ما عاد يعبّر تماماً عن الواقع. كما أنّه يظهر عجز الحزب عن التعامل مع تطوّر شويا. ولذلك فهو يعتبره استمراراً للإنقسام القديم حول المقاومة بينما يدرك الحزب أنّ ما حصل في شويّا ليس مجرّد انقسام في الرأي حول سلاحه بل هو رفضٌ لاستخدامه قرى حدودية تقطنها غالبيات طائفية معنية لقصف إسرائيل. أي أنّه رفضٌ لتمتّع الحزب بحرية الحركة في الجنوب، تماماً كما رفض الكثير من الجنوبيين ماضياً حرية الحركة الفدائية الفلسطينية في قراهم.
فإذا سلّمنا جدلاً أنّ الحزب نجح في تثبيت "قواعد الاشتباك" مع إسرائيل والمستمرة منذ حرب تموز 2006، فإنّه بات يواجه معضلة حقيقية في الداخل اللبناني تتمثّل في رفض غالبيات طائفية لبنانية، سنيّة ودرزية ومسيحية لمقاومته؛ أي لإمساكه بقرار الحرب والسلم مع إسرائيل من خارج أي استراتيجية دفاعية وطنية.
بالتالي انتقلنا من حالة إنقسام حول سلاح الحزب لا تجد لها ترجمة على أرض الواقع، إلى حالة انقسام لها ترجمات ميدانية سواء في الجنوب أو في بيروت عندما رفع المتظاهرون في 4 آب شعار "رفع الاحتلال الإيراني" عن لبنان. والمقصود أنّ سلاح الحزب ذو وظيفة إقليمية ويُستخدم بحسب الأولويات الإيرانية لا اللبنانية. علماً أنّ هذا الشعار لا يمكن قياسه على تظاهرة 4 آب وحسب لأن أصداؤه باتت تتردّد على نطاق واسع في الداخل اللبناني وضمن بيئات وشرائح اجتماعية متنوعة.
لذلك فإنّ الإشتباك المدروس بين الحزب وإسرائيل لم يَعد العنصر الأساسي في المشهد اللبناني بل إنّ نموذج اشتباك شويا بات هو العنصر الجديد والرئيسي. فإذا كان الاشتباك مع اسرائيل محكومٌ بمعادلات إقليمية ودولية دقيقة تمنع حتّى الآن خروجه عن "السيطرة"، فإنّه لا يمكن القول إنّ الاشتباك الداخلي حول سلاح الحزب ما يزال مضبوطاً كما في السابق وإن كان لم يفقد كلّ عناصر انضباطه؛ لكنّه اشتباك يتطوّر بسرعة وقد انتقل إلى مرحلة جديدة أكثر احتداماً وخطورة.
وليس قليل الدلالة في السياق قول نصرالله في 7 آب أنّه لو استطاع مقاتلو الحزب الرمي من مناطق شيعية لكانوا فعلوا ذلك، لكنّ المعطيات العسكرية اضطّرتهم للرمي من جغرافية غير شيعية. وهذا اعتراف ضمني من قبل الحزب بضيق هامش تحرّكه وبتبدّل الواقع اللبناني عمّا كان عليه قبل العام 2000 وقبل العام 2006 حيث لم تكن جغرافيا تحرّك الحزب وتمركزه مطروحة على النحو الحاصل الآن.
وهذا تطوّر لا يمكن عزله عن مجمل المشهد اللبناني في ظلّ الانهيار المالي والإقتصادي الذي أعاد تدوير الإنقسامات اللبنانية وفاقمها على نحو غير مسبوق. وهي انقسامات بدأت تأخذ بطبيعة الحال وجهات طائفية عميقة، خصوصاً في ظلّ استعصاء تأليف الحكومة طوال عام كامل، باعتبار أنّ تأليف الحكومة كان يمكن أن يهدّئ وتيرة الإنهيار وأن يمتصّ التوتّر السياسي – الطائفي.
بالتالي فإنّ الانقسام حول سلاح الحزب بات انقساماً متحرّكاً على وقع الأزمة وتجدّد الإنقسامات اللبنانية. وهذا الواقع الجديد يحتّم على الحزب أكثر من الإعتراف بالإنقسام حول سلاحه. وهو اعتراف يُسقط في أعقاب اشتباك شويا، ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"، ويجعل وصفها بالمعادلة الذهبية محالاً لأنّ موقف أهالي شويا وتأييد الغالبية اللبنانية لهم، شكّلا الدليل الدامغ على معارضة معظم اللبنانيين ومن شرائح اجتماعية وطوائف مختلفة لإمساك الحزب بقرار الحرب والسلم خارج أي إطار شرعي لبناني. وهو ما عبّر عنه البطريرك الراعي بوضوح في عظة في 8 آب فخوّن من قبل جمهور الحزب.
لكنّ واقع الأمر أنّ ما هو مطلوب من الحزب يعدّ من سابع المستحيلات بالنسبة إليه. إذ أنّ المطلوب منه أنّ يسلّم سلاحه إلى الدولة أسوة بجميع الميليشيات بعد العام 1990 تطبيقاً لاتفاق الطائف. وهو ما كان يجب أن يحصل مباشرة بعد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000. ولو حصل ذلك لكان الحزب الآن في موقع متقدّم في المعادلة السياسية والإقتصادية في لبنان من دون الحاجة إلى الترسانة الصاروخية ومتخففاً من اللائحة الطويلة لعدواته الداخلية والخارجية.
ولعلّ لحظة تمسكّ الحزب بسلاحه بعد الإنسحاب الإسرائيلي بحجّة "استكمال التحرير" بعدما أعلن النظام الأمني اللبناني - السوري أنّ مزارع شبعا لبنانية، بينما قال رئيس النظام السوري في العام 2011 للديبلوماسي الأميركي فريديرك هوف أنّها سورية، كانت لحظة إعلان الحزب أنّ سلاحه جزءٌ من المعادلة الإقليمية في المنطقة، وهو ما أدّى عملياً إلى إنهيار لبنان بسبب تحوّله ساحة صراع مفتوح بين طهران والقوى الغربية المعادية/المفاوضة لها.
في المقابل فإنّ اشتباك شويّا وتفاعل اللبنانيين معه كانا إعلاناً صريحاً من جانب الغالبية اللبنانية لرفض إقحام لبنان في المعادلة الإقليمية بعدما كانت نتيجة هذا الإقحام إنهيار البلد ووقوع رابع أكبر انفجار غير نووي في مرفأ عاصمته.
الآن هناك عودة إلى جوهر الأزمة اللبنانية، أي الصراع حول سلاح الحزب. والمتغيّر الأساسي في هذا الصراع أنّ قواه لم تعد سياسيّة حصراً إذ بات يأخذ طابعاً شعبياً متنامياً. وهذا متغيّر يفترض أن يحسب له الحزب ألف حساب وأن يدفعه إلى طرح سؤال رئيسي: هل لغة التهدئة واحتواء التصعيد ما زالت تكفي لمحاصرة التوتّر حول سلاحه، أم المطلوب خطوات عملية أكبر، وحتّى أكبر من تشكيل حكومة؟ وإذا كان الحزب عاجزاً عن الفعل هنا، فهو لا يمكنه مطالبة معارضيه بقبول سلاحه والتعايش معه ولاسيمّا أنّهم باتوا يربطون بينه وبين إنهيار معيشتهم.