لا أكشف سرّاً إن قلت إنّني من مواليد ما قبل الحرب. تاريخ ولادتي لا يُغيّر من الوقائع شيئاً. المهمّ في ذلك أنّني حينها لم أعرف من لبنان إلا بعضاً منه جرّاء انفجار الحروب الأهلية المُلبننة. وحده الكاتب والروائي سمير عطالله بدا أنّه نذر نفسه ليعرّف اللبنانيين بوطنهم. كانت نصوصه وأينما حلّ تحضن دعوة للّبنانيين إلى أن يتعقّلوا ويخرجوا من دائرة الجنون والنار.
مطاردة في الصحف
أوّل عهدي بالقراءة غير المدرسية كانت له. لم أكن أتابعه. للدقّة كنت أطارده من جريدة إلى منافستها. ومن زاوية إلى أخرى. ومن حدث إلى ما يُشبهه. ومن دولة إلى ثانية. لم يكن سمير عطالله بالنسبة لي، شخصاً عاديّاً، ولا كاتباً مرموقاً، أو مثقّفاً طليعياً وموسوعياً. كان أقرب إلى السندباد منه إلى كتّاب كنت أتابعهم بفعلٍ من انتساب سياسي يساريّ.
كنت أسعى وراءه كلّما سمحت لي ظروفي المادّية بشراء جريدة. كان كسندباد الذي كنت أقرأ عن مغامراته في "ألف ليلة وليلة" وأتابعه عبر شاشة التلفاز بصحبة ياسمينة. لكنّه سندباد بعُدّة مختلفة: لم يكن يجوب الآفاق على بساط صغير أشبه بـ"الحصيرة" أو السجّادة الصغيرة، ولا على ظهر مركب خشبي يقطع البحار.
السرقة المستحيلة
هو سندباد بِساطُه مقالة صغيرة الحجم، ومركبه من كلمات لا من خشب. سرعان ما كنت أنهي قراءة هذه المقالات لأعود إليها من جديد من دون انقطاع مرّةً واثنتين وثلاثاً، محاولاً على الأقلّ سرقة تقنيّة كتاباته. وعلى الدوام كان العجز حليفاً.
مقالة سمير عطالله صغيرة الحجم حتى الغضب، إذ بعد طول انتظار يدوم أسبوعاً كاملاً، تنتهي في دقائق. أسبوع كامل من أجل دقائق معدودات! لكنّها دقائق تتّسع لأعمار وكتّاب وأحداث ودول وعصور وثقافات وحضارات. في البداية لم أكن أعرف له عنواناً سوى "النهار" الجريدة. وكم كانت فرحتي كبيرةً حين صرت ألتقي بسمير عطالله يوميّاً، بعدما اهتديت إلى زاويته في "الشرق الأوسط".
حتّى الامتلاء
لم أكن أقرأ مقالة سمير عطالله. كنت أمتلئ بها. وعند الامتلاء تسيطر عليّ رغبة عارمة في المشي. في الانطلاق. وكنت أتأبّط الجريدة وأمشي... أمشي وحدي بسرعة فائقة جائباً الطرقات. وحدي؟ لا بل كنت أعدو مع كثيرات. كنت أمشي وحدي ممتلئاً من دون تثاقل، وأعدو مع بنات أفكاره، أتلفّت يمنةً ويسرةً، مفتوناً بجفونهنّ وعيونهنّ...
بعد ذلك قرّرت الكتابة. لا، بل بالأحرى قرّرت أن أكون سمير عطالله. لكن كيف؟ كيف أكتب مقالاً يبدأ بشارع صغير في لبنان وينتهي في نيويورك، أو في طروادة، وأنا الذي لم أكن أعرف من لبنان إلا حيث أصطفّ سياسياً والقراءات الأيديولوجية والروائية؟ كيف أكتب مقالاً يبدأ بخبر صغير لا يتجاوز عدد كلماته أصابع اليد الواحدة، وينتهي بكلمات لا نقطة تضع حدّاً لها؟
كيف أكتب مقالاً لا أعرف كيف يبدأ، ولا كيف ينتهي؟ أحقّاً أنّ مقالاته كانت تنتهي؟ أَمِن كلمات هي أم من كتبٍ ومجلّدات؟ من حبرٍ أم من لحمٍ وعرقٍ ودم؟ جماد هي أم كائنات حيّة؟ وأين كان يكتبها: على مكتب ثابت لا يتحرّك، أم على بساط السندباد؟ مقالاً تلو آخر، كنت أكبر وتكبر أسئلتي وتزداد وتتطوّر، وما تزال إلى الآن تُطرح أمامي عند كلّ مقالٍ أو حدثٍ أو مفترق: عمّ يكتب سمير عطالله؟ أو هل يكتب في الثقافة، السياسة، الأحداث، الدول، الشخصيّات... الحضارات، عن قريته "الجزينيّة" وعمّه المبتكر أم يكتب في الآفاق وعنها؟ إلى الآن لم أتوصّل إلى إجابة مقنعة، ففي مقاله منها كلّها وأكثر.
أساتذتي في الكتابة كُثر قد يكون الأبرز بينهم عقل العويّط، محمد علي مقلّد، وضّاح شرارة، والحبيب حازم صاغية. وحده سمير عطالله يشبه سمير عطالله، لا في لبنان والعالم العربي فحسب، بل في العالم! هل تعرفون كاتباً يكتب يوميّاً ما يُدهش وما لم يسبقه إليه أحد منذ عقود أربعة على الأقلّ؟ ويفاجئنا بين الحين والآخر، أو بين مقال ومقال، بكتاب يكون فيه عاشقاً حيناً، مؤرّخاً حيناً آخر، ورحّالةً يجوب البلاد. فاخَر بشيء من هذا في مقال شهير له، ديك "النهار" زهاء نصف قرنٍ إلا نيّف من الزمن، زميله ميشال أبو جودة، لكنّه لم يكتب في غير السياسة.
أيّوب الكتابة اليوميّة
"مِخْوِل" سمير عطاالله، "والصبي ولو بار تِلْتَيْنُو للخال"، كما يقول المثل العاميّ. لكنّه "مِخول" على طريقته: فلئن تفرّد خاله الأديب الراحل بولس سلامة بباعه الطويل في الصبر، حتى لُقّب بأيّوب عصره، تفرّد هو بباعه الطويل في الكتابة، لكن ليست أيّ كتابة، إنّما الكتابة اليومية، التي "تحتاج إلى خدمة"، كما يقول في حوار معه. أمضى فيها إلى يومنا هذا أكثر ممّا أمضى خاله في الصبر.
أقعد المرض بولس سلامة أربعة عقود طريح فراش لم يفارقه، حتى كتب: "إنّ حظّي من الحياة سرير/ بات منّي فلم يعُد خشبيّا". ما حظّ سمير عطالله منها إذا أردنا إسقاط البيت على مسيرته؟ مقال يوميّ تخاله إنساناً بقلب يخفق وعقلٍ يربط الأحداث والأفكار، وفمٍ يحكي، وخيالٍ لا يحدّه حدّ. أيّوب الكتابة اليومية هو بلا منازع.
لم يترك سمير عطالله حدثاً أو بلداً أو موضوعاً أو باباً لم يطرقه. عرفتُ القضايا بغالبيّتها عن طريق قلمه. رأيت بعينيه أحداثاً ووقائع كثيرة. جالست معه ملوكاً ورؤساء وكتّاباً وفنّانين وأناساً عاديّين، وهذا عائد إلى أسلوبه الساحر، إلى تقنيّته الخاصّة في "صناعة" المقال. بكلمات ينقلك سمير عطالله إلى أقاصي المعمورة، ثمّ يعيدك إلى حيث انطلقت، بكلمات.
يعيدك؟ لا بل يتركك في مهبّ الكلمات. بكلمتين منه ينتصب أمامك شارل ديغول، أو تقف في حضرة نابليون بونابرت، أو تخشع أمام عظمة سقراط، أو تطير على جناحَي لحن ونغم...
كاتبٌ سمير عطالله؟ صحافيّ؟ أديب؟ مثقّف؟ رحّالة؟ فيه منها كلّها، لكنّه شيء فوقها. إنّه ساحر. ساحر بالأفكار والكلمات، وساحر بتقنيّات الكتابة.
سمير عطالله هو سمير عطالله، فقط. لا أكثر. وهل للمرء أن يكون أكثر؟
*عن صفحة أساس-ميديا