أعمقُ مزايا سمير فرنجيّة، العقلُ. عندما تندر عطيّةٌ طبيعيّةٌ (جينيّةٌ) كهذه، إلى هذا الحدّ المفجع، في الحياة الوطنيّة والسياسيّة، ينبغي أنْ نخاف (من) أنفسنا، و(من) المجتمع الذي نعيش فيه، و(من) الدولة التي نركن إليها. وينبغي أنْ نخاف الخوف كلّه - من - رؤسائنا وحكّامنا وشاغلي وظائف السلطة عندنا.
أعمقُ مزايا سمير فرنجيّة، العقلُ. وقد بقي عقلُهُ شغّالًا، لاقطًا، متحفّزًا، متنبّهًا، قانصًا كالمغناطيس، مضيئًا، نيّرًا، خلّاقًا، مبادِرًا، ومكبِّرًا عدسة الأمل، على مدى التجارب والمحن، العامّة والخاصّة، التي بقيت تعصف بلا هوادة، من دون أنْ تنال من عزيمة الرجل، أو أنْ تشوّش بصيرته، أوْ أنْ تجعله يعيد النظر في مكانة العقل، ليس في الشأن العامّ فحسب، بل في الشؤون مطلقًا.
إنّها شكيمة العقل. يا لها من شكيمة!
أكتب بتبسيطٍ كلّيٍّ عن العقل الذي هو "خدمة" ممنوحة بالمجان للشخص البشريّ. وهي قد تبور ويبطل مفعولها إذا لم تُشغَّل. يمكنني أنْ أقول بلا تردّد إنّ هذه "الخدمة" كانت شغّالة لدى سمير فرنجيّة 24 على 24. فقد كان عقلًا لا يهدأ، ولا يستريح، ولا يأخذ إجازة، حتّى في عزّ المرض. وكان يستنبط، ويبتدع، ويحفر الجدران المسدودة بالإبرة المتأنّية (لا بالإزميل)، التي ترى موضع الحفر، بدقّة، وترى ما يحيط به من مطبّات، فتمضي في الحفر بصبرٍ جَلود، وبتؤدة، وبصلابة، وبتواضع، مهما تطلّب الحفر من وقتٍ وجهد.
لقد غادرْنا مدارَ العقل في لبنان، من زمان، وبتنا في مدار الغرائز الهمجيّة والبدائيّة التي يستخدمها، ويشغّلها، مَن في أيديهم (أو مَن في يده) الأمرُ والنهي. هذه بليّةٌ ما بعدها من بليّة. ولا بدّ من أنْ يكون الآتي فيها أعظم (أسوأ) ممّا نعيش ونشهد. إذ لا يُحكَم لبنان، ولا تُدار السلطة فيه، بالطريقة التي يُحكَم فيها، وبالكيفيّة التي تُدار فيها شؤون السلطة الحكم. إنْ دلّت الطريقة المتّبعة على شيء، فعلى تمريغ العقل والبصيرة تمريغًا يستدعي استنفار كلّ المخاوف على المصير.
لا تتجلّى "عبقريّة" رجال الدولة (أو الحكم أو السلطة) إلّا عندما يشغّلون "خدمة" العقل، ويوظّفونها، تأجيجًا للحكمة، وتعميمًا للخير العامّ، وبحثًا عن الخلاص.
كلّ ما يفعله هؤلاء المسؤولون اللبنانيّون، إنّما ينذر بالشرّ المستطير، لأنّه يغتال "خدمة" العقل، أو يشغّلها في غير الغاية المرجوّة منها.
في الذكرى الرابعة لغياب سمير فرنجيّة، أحبّ أنْ لا أكتب إلّا عن هذه "الخدمة" حصرًا، "خدمة" العقل. فقد كان سمير فرنجيّة عقلًا. وكانت "خدمة" العقل لديه في أعلى مراتبها. فليرقد بسلام حيث هو، وإنْ كنّا في أمسّ الحاجة إليه وإلى عقله.
عن صحيفة النهار