إطلاق "الحزب – حماس" صواريخ من جنوب لبنان على شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا يمكن العثور له على أي تبرير. حتى لو كان الإدعاء "نصرة الأقصى". يبقى أن الإدعاء، كائنة ما كانت طبيعته، ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أن لبنان صار جثة في السياسة، والاقتصاد، والتعليم ، والطبابة.
"الأيلولة" التي انتهت إليها الجمهورية الثانية انما تنسحب بدايتها ونهايتها من انفجار الجمهورية الأولى في نهاية الستينات ومنتصف السبعينات، وبسبب من مغامرة المسلمين واليسار في تقديم "مشروعية المقاومة الفلسطينية" على الدولة.
الأسوأ ان الحزب يسقط من اعتباره أن مآلات الانهيار اللبناني العام كان له فيها الحصة الأوزن. الانهيار الحاصل، بما هو خطر وجودي لا على الدولة وحسب، بل على حياة اللبنانيين بلقمة عيشهم وأساسيات العيش، تعود بأصولها إلى "المقاومة" ودورها في اللامبالاة إزاء الدولة فكرة ومضموناً.
الحزب "قوة قاهرة"
مثل "الحزب" على الدوام طبيعة ذاتية لكيان طائفي، فضلاً عما شكله من تجسيد فعلي لمصالح خارجية: مرة كانت سورية. ومرات كانت إيرانية. وما من مرة إلا وبدت "المقاومة" كقوة قاهرة غير خاضعة للمساءلة، وهذا بحد ذاته دحض لفكرة الدولة حديثةً كانت أو سابقة على الحداثة.
في لبنان الذي ذوى جراء سلاح بوظائف ما فوق وطنية وعابرة للحدود ومعدلات فقر غير مسبوق يزعم "الحزب" ورهطه ومشايعيه أن هزيمة إسرائيل قاب قوسين أو أدنى، متجاهلاً أن تل أبيب صار اسمها تل ـ تك (تكنولوجيا) وأنها توسعت في علومها وصناعتها لتصل إلى صفوف العالم المتقدم.
العالم قلق من نصر الله؟
عزاؤنا في كل هذه السوريالية، هو أن "الشيطان الأصغر" ومعه "الشيطان الأكبر" يتابعان بقلق بالغ سيّل خطابات الأمين العام للحزب. لا بأس ان يكون لبنان سقط صريعاً وإسرائيل تنعم بكل مقومات الدولة. ولا مشكلة، ما دام كلام سماحته يؤرقهم خصوصاً عندما يعرض على كرتونة إحداثيات المواقع الإسرائيلية التي سوف يستهدفها. حزبه أزال حدود الدول وربَط الساحات التي لم تصبح دولاً، والغارقة في الظلام من غزة الى دمشق مروراً ببيروت.
لبنان المزدهر في الاعلام اليوم جراء موته الدولتي بعدما تصدر أعلى معدلات الفقر والانهيار بسب من مقامرات "الحزب" ـ واستدعائه "حماس" و"الجهاد"ـ يعاني نقصاً فادحاً في فهم معنى الدولة: إما على شكل قصور عن نشر السلطة على مدى تراب جمهورية الأرز العليل، أو على شكل ازدواج في الجسم السلطوي، على مثال إيران الدولة والحرس الثوري، أو العراق الدولة والحشد الشعبي. وما الفارق هنا بين الوضع المتين لإسرائيل وبين الوضع الكئيب والمتصدع للبنان. الأولى أنجزت بناء سلطة وإنشاء دولة. الثاني ولأسباب عدة الأرجح فيها تَصْدُر الحزب، لم يفعل.
الاقتصاد أم "حزب الله"؟
وضعت سياسات "الحزب" غلبة لبنانية وازنة أمام سؤال كلفته عالية الثمن: الاقتصاد أم الحزب؟
الناس جوعى ومُهانة، فيما الحزب ينضح بخطابات "تحرير فلسطين"، "الشهداء"، وكذلك بمفردات هيولية من نوع "الكرامة" و"العزة"، على ضوء الشمعة وسط انهيار التعليم وقطاع الصحّة والخدمات على أنواعها. سؤال اللبنانيين ليس موضوعاً مفتعلاً او عديم المعنى.
السؤال له أسباب فعلية تُسنده وليس مقصوراً على جماعة أهلية بعينها. فالإنهيار نزل بالجميع وعليهم. والفقر كالطوفان أخذ كل شيء في طريقه. والفقر كالوباء ينتشر حيث نزل. والدولة حين تمرض فإنما كلها تعتل: مسلمين ومسيحيين وعلمانيين وكذلك اليسار واليمين إذا ما وُجدوا.
لماذا يفعل أمين عام الحزب ما يفعله، وهو يرى الانهيار الكلي للدولة والاقتصاد؟
لماذا أناب نفسه عن لبنان عندما استعمل لغة "الأمر والنهي" في خطابه التهديدي الموجّه لمجهول يُخيّر لبنان بين الجوع والموت بالقتل.. معلناً "الحرب" ردّاً على هذا الخيار؟
هل سيقاتل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الذي انقطع لبنان عنهما بسبب من سياساته ومغامراته العسكرية على مساحة العالم العربي؟
أو هل سيفجّر أسعار الصرف ويهاجم الدولار ويحارب العقوبات الأميركية ويخاصم التخلّي العربي والدولي عن لبنان واقتصاده وأهله وناسه؟
أكلاف العيش والحرب
إسرائيل التي يدعو إلى دحرها من سهل القليلة في قضاء مدينة صور يبلغ الحد الأدنى فيها للأجور نحو 1800 دولار أميركي، فيما مثيله بلبنان لا يتجاوز الـ45 دولاراً.
الأسوأ أن لبنان تسلم رسمياً من زيمبابوي "دفة القيادة" العالمية لبطولة تضخّم أسعار الغذاء، منذراً "المنافسين" جميعاً من الدول المتعثرة والفاشلة بتوسيع الفارق الرقمي من الآحاد إلى العشرات. وجاءت هذه "الريادة" الممهورة بتوقيع البنك الدولي بعد تسجيل لبنان أعلى نسبة تضخم في اسعار السلة الغذائية منذالشهر الاول للعام الجاري 2023.
منظمة العمل الدولية أيضاً ذيلت توقيعها على الريّادة اللبنانية في بطالة القوى العاملة التي صار ثلثها في المنازل ويبلغ نحو 30 في المئة، ليضاف إلى معدل بطالة كان قائماً ونسبته تفوق الـ20 في المئة. ما يعني أنّ نصف اللبنانيين بلا عمل وبلا دخل.
عبء التخيير بين سوريا وفلسطين
قبل الإنسحاب السوري في 26 نيسان 2005 كان التخيير الواقع على اللبنانيين: إما مع دمشق الأسد أباً وإبناً.. أو "نحرق البلد". وهذا كلفنا اغتيال الرئيس رفيق الحريري ونواب وقادة رأي.
في زمن الصعود الناصري كانت المفاضلة: مصر أم الإمبريالية العالمية؟ بين الزمنيين كان الإنتقاء جبرياً: إما تحكم "منظمة التحرير الفلسطينية" أو تدمير الدولة.
الوقائع اللبنانية اليوم تتكرر إنما على الحدود الجنوبية مع فلسطين. يتجاهل الحزب أنّ المسألة أعقد من جدلية: مع فلسطين أم ضدها؟ نعم مع الحق الفلسطيني. لكن، ماذا عن الدولة واقتصادها قبل إطلاق الصواريخ وبعده؟
الفقر المُقيم في لبنان
في لبنان اليوم 2.420 مليون لبناني فقير، منهم 1.1 مليون لبناني تحت خط الفقر، وهؤلاء يشكلون نحو 275 ألف أسرة، بحسب البنك الدولي.
الكارثة الكبرى في الشمال والبقاع الشمالي حيث بلغت معدلات الفقر 73 في المئة.
استطلاع شركة "غالوب" للتحليلات والاستثمارات خلص إلى وقائع مخيفة. أظهر أنَ 9 من كل 10 أشخاص وجدوا انّه من "الصعب جداً" تغطية نفقاتهم. هذا كان في العام 2021 ، فماذا سيكون راهناً؟
والحال هذه، فأي حرب يريد أن يخوضها أمين عام الحزب ضد اسرائيل؟ وهو إذا ما مضى في ما يهدد، فإنما يفعل ذلك على الضد من المجتمع الدولي، ومن الدولة والاقتصاد والاجتماع اللبناني. أما إذا اقدمت إسرائيل على الحرب فستخوضها عبر الدولة والديبلوماسية آخذة بالاعتبار اقتصادها.
أما عندنا، ومع اشتباك حدودي كاد أن يطيح بالمنطقة، وكما التستر على "العار"، أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أنً من نفذ القصف "هم عناصر غير لبنانية"، معتقداً، وعن استسهال غير مسبوق، أنّ ذلك حبل الخلاص والنجاة، فيما هو طوق يلتف حول أعناق اللبنانيين.
*عن صفحة أساس-ميديا
في الحلقة الثانية غداً: "المقاومة" أم الإقتصاد؟