تاريخ لبنان الحديث متخم بـ"المقاومات". هي كثيرة بكثرة تقلّب حقبات لبنان الحديث. العنوان جذب "اليمين" و"اليسار" على السواء. انخرط فيها المسلمون والمسيحيون بلا هوادة، فكانت لهم سِيَر مديدة لم يخرجوا منها. جميعهم هوّل بعضهم على بعضٍ بها. منّن بعضهم بعضاً بالإسهام في "استقلال" البلد الذي بقي تابعاً على الدوام لاحتلال أو لوصاية أو لسيطرة وتحكّم.
بصرف النظر عن الأدوار المهمّة التي أدّتها في تاريخ لبنان الحديث، ليست مقاومة العدوّ المحتلّ وتحرير الأرض أقلّ من ركيزة أساسية من ركائز الاستقلال الحديث. لكنّ داء المقاومات الدائم والأزليّ يتلخّص في أنّها ما إن يتمّ التحرير حتى تبدأ بفقدان بعض مبرّرات بقائها فاعلةً وقيد التأثير. هذا يلحُّ الآن بعد الأيلولة الكارثية للبلد، فحزب الله يدعو إلى الاستثمار الزراعي في رقع جغرافية، وسمير جعجع صار مورّداً تجارياً، فيما أحدٌ لا يسأل عن مصير تفّاح العاقورة ولا عن سوق لبطاطا سهل بعلبك.
طبعاً لبنان ليس مفصولاً عمّا يجري في محيطه. لكنّ أيّ مقاومة، على الرغم من عظمة المقاومة اللبنانية ضدّ العدوّ الإسرائيلي، وأدوارها الحاسمة في تحقيق شروط استقلال البلد، لا بدّ أن تواجه في نهاية المطاف اختبار تحقيق أهدافها. فحين تتحرّر الأرض، ويتحقّق الاستقلال الناجز والتامّ، يضمُر دور المقاومات عموماً. وإذا كنّا نتحدّث عن بلد صغير لا يستطيع أن يحمل مشروعاً إمبراطورياً لحكم المنطقة التي تحيط به، يصير الحديث عن مستقبل المقاومات أشدّ عسراً على أهله أوّلاً، وعلى البلد ثانياً وثالثاً وعاشراً. هذا سؤال ملحّ الآن، وعلى "حزب الله" أن يجيب عليه، ما دام يقبض على أعنّة النظام باسم "المقاومة الإسلامية". السؤال العسير هذا واجهته وتواجهه "المقاومة المسيحية" أيضاً ما دامت لم تقدّم شيئاً للبنان.
في الجهة المقابلة، لا يتوقّف سؤال النموّ عن فرض التحدّيات على الجميع. ولا يتوقّف سؤال الازدهار والاستقرار وتحسين الوضع المعيشي عن فرض نفسه على اللبنانيين عموماً. هذا لا يعني أنّ القوى السياسية الأخرى لا تؤدّي دورها على هذا المستوى. لكنّ هذا الدور يبقى ناقصاً ما دام سؤالها يقع في خانة عدالة التوزيع من دون أن يتعدّاه إلى التفتيش عن مصادر الثروة والرزق.
بكلام أوضح: قد تعترض أيّ قوّة سياسية في البلد على اللاعدالة في الإنماء أو الإجحاف في توزيع الثروة اللبنانية، وقد يكون اعتراضها في محلّه. لكنّ السؤال الذي ينبغي علينا طرحه في هذا المجال: إذا كنّا نعترض على الدين العامّ، وعلى لاعدالة التوزيع، وعلى سياسة المصرف المركزي، فهذا يجب ألّا يجعلنا نغفل عن مصادر الثروة التي نوزّعها وعن دور كلّ القوى السياسية والاجتماعية في الإنتاج أيضاً.
النقاش الاقتصادي اليوم، وفي كلّ مكان من العالم، لا يقتصر فقط على حسن توزيع الثروات، بل أيضاً على دور كلّ فئة أو قوّة اجتماعية في الإنتاج. لذلك لا يستقيم نقاش الدين العامّ والاعتراض عليه من دون أن يطرح المعترض بدائل مناسبةً للتمويل، ولا يستقيم الحديث عن إجحاف في التوزيع من دون أن يطرح المعترض خطّته لرفع معدّل النمو وتحسين الإنتاجيّة. وهذا شأن من شؤون كلّ "المقاومات"، قديمها الذي يُستحضر "عند الخطر"، وحاضرها الذي يستمرّ ويهتف: "هيهات منّا الذلّة".
مرّةً أخرى: اعتراف اللبنانيين جميعاً بفضل المقاومة المسلّحة ودورها الحاسم في تحرير الأرض، يجب أن يكون بديهيّاً. لكنّ سؤال المقاومة اليوم بعدما تحرّرت معظم الأرض، وفيما تتوثّب نحو البحر، لا يقف عند كيف نحرّر، بل يتعدّاه إلى سؤال كيف نمنع الاحتلال من أن يجرّب حظّه في الاحتلال مرّةً أخرى؟
ثمّة وجهة نظر في البلد تقول إنّ احتفاظ المقاومة بجهوزيّتها للردّ على أيّ عدوان، هي الوسيلة الأنجع لمنع العدوّ من المحاولة. وهذا صحيح جزئيّاً، لأنّ المقاومة اليوم لا تقف عند هذا الحدّ، بل تتعدّاه إلى محاولة النهوض باقتصاد البلد واجتماعه واستعادة صلته بالمعاصرة والعالم بوصف هذه المحاولة مطلوبةً وضروريّةً لتحصين لبنان من أيّ اعتداء جديد. فالردّ على العدوّ لم يكن مرّةً بالسلاح وحده، بل أيضاً بتقديم شواهد الإثبات للعالم أجمع بأنّ من حقّ هذا البلد وأهله العيش باطمئنان وسلام.
على هذا، لا يستقيم حديث المقاومة اليوم من دون البحث الجدّي في دور لبنان في المنطقة والعالم، وإعادة وصله بالعصر من أوسع الأبواب، سواء تعلّق الأمر بنمط الحياة الحديث الذي لطالما كان من مميّزات لبنان التاريخية، أو تعلّق الأمر بإعادة ترميم الدور الاقتصادي، سياحةً وخدمات، وإبداعاً واختراعاً، وصناعةً وتجارةً وزراعة. وهذه كلّها ليست تحصيل حاصل، فما من دولة في العالم تفترض أنّ ازدهارها تحصيل حاصل، وأنّ ذكاء أبنائها ومواطنيها كفيل وحده بإنقاذ البلد من الأخطار. والأكيد أنّ الاكتفاء بسؤال الله "أو وكلائه" أن يجعل لنا مخرجاً لن يعالج الانهيار، ولن يعيد البلد إلى جادّة العالم ووجهته.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا