في اليوم الثالث لثورة 17 اوكتوبر وقف حسن نصرالله مهددا متوعدا متهما الثوار بانهم مأجورين عملاء سفارات، وبانه لن يسمح لا باستقالة رئيس الجمهورية ولا باستقالة الحكومة. وقف نصرالله يومها مدافعا عن السلطة واستطرادا عن النظام، محاولا اضفاء شيء من اللبننة على حزبه الايراني العقيدة والولاء من خلال رفعه وراءه لأول مرة علم لبنان. الوقوف بوجه الثورة فرض عملية تماهي مع النظام اللبناني، عملية السعي للتمدد داخله والامساك بمفاصله. استقال رئيس الحكومة سعد الحريري رغم ممانعة نصرالله، الا ان ذلك جاء لصالحه ولصالح ما يخطط له. زخم الانتفاصة دفع "القوات" و"الاشتراكي"، حلفاء "المستقبل" يومها، الى اتخاذ قرار عدم العودة الى الحكومة، ما سهل على نصرالله مهمة الذهاب نحو حكومة طيعة بين يديه "شبيك لبيك" لدرجة انه اضطر اكثر من مرة ان ينفي ما اصبح يعرف ويردد بانها "حكومة حزب الله"!
وقد اكدت هذه الحكومة خلال مسيرتها القصيرة انها لا تحرك ساكنا ولا تقطع خيطا من دون موافقة نصرالله، وتحديدا في قضايا مفصلية مهمة تتعلق بسياسة الدولة مثل الأزمة المصرفية والنقدية، او بما يخص علاقات لبنان الخارجية وتوجيه رسائل الى الولايات المتحدة مثل قضية العميل عامر فاخوري او قرار اللجوء الى صندوق النقد الدولي، فيما تركت المراكز والتعيينات والحصص الى الحلفاء. أي معادلة السلطة مقابل الكراسي مثلما أرسيت معادلة السلاح مقابل الفساد، والتي تدرجت الى شراكة، اذ ان من يغطي فاسدا لا بد ان يكون فاسدا مثله او أقله متواطئا.
نصرالله ضمن اذا السلطة بانكفاء شركائه في التسوية الثلاثية الشهيرة (نصرالله-عون-الحريري - تشرين 2016)، التي تقطعت أوصالها على وقع الثورة، والتي فرض عليها لاحقا وباء كورونا اللعين الانكفاء مخلية الساحة لسلطة "حزب الله" الضامن في الاساس ولاء رئيس الجمهورية. غير ان هذه السلطة تستمد قوتها ونفوذها ووهجها وهيبتها وجبروتها من السلاح، ولا شيء غير السلاح، معطوفا عليه ايديولوجيا دينية ظلامية تستند الى نظرية السلطة الالهية ("ولاية الفقيه") في ايران التي أرعبت العرب وغزت دولهم، وهي تقارع اليوم الولايات المتحدة. وهذه السلطة، المتحصنة بالسلاح الذي يحميها ويفرض هيبتها، تحولت الى أخطر انواع الارهاب وجعلت من الآخرين، ممن يحيط بها او يتعامل معها، اما خائفا مرعوبا بكل معنى الكلمة او انتهازيا وصوليا. والحالة الثانية تنطبق على معظم اركان الطبقة السياسية، وبالأخص السياسيين الموارنة اللاهثين وراء كرسي رئاسة الجمهورية، بعضهم يطبل لـ"حزب الله" وآخر يماليء او يلتزم الصمت.
ولكن الأهم والأخطر هو نجاح "حزب الله" في فرض حالة من الخوف الجماعي الذي بات يسكن في اللاوعي عند شرائح واسعة من اللبنانيين الذين يرفضون بشكل فوري تحميل اي مسؤولية لـ"حزب الله" وسلاحه غير الشرعي، وحتى مجرد الكلام عنه. ان ما يحصل هو نوع من اسقاط ذهني تلقائي لاشعوري يعكس حالة الخوف والارتياب. كما ان هناك بالتالي رفض لما يسميه البعض خلط بين المطالب المعيشية والفساد ومسألة السلاح، أملا بتوسيع مشاركة شرائح شيعية في الثورة، ولكي لا تضيع المطالب...! وهكذا تصبح المطالبة بتطبيق الدستور و"اتفاق الطائف" الذي نص على نزع سلاح جميع الميليشيات، وكذلك القرارات الدولية المتعلقة بلبنان وسيادته وحماية حدوده مغامرة واستفزاز وتحد لـ"حزب الله"، لا بل عمل مأجور تقف وراءه وتحركه أحهزة السلطة نفسها. منعا لأي التباس راح السلاح يلعلعل امس في شوارع بيروت. هناك بعد من يتوهم بامكانية تحييد "حزب الله" وارغام السلطة على تقديم تنازلات من دون اثارة "المارد الطيب"، ناسين او متناسين ان السلطة هي عمليا بيد "حزب الله". فهل ما زال هناك امكانية للفصل بين "حزب الله" والسلطة؟ وهل ان الأمر مجرد سذاجة او قصر نظر؟