بحلول الخامس والعشرين من آذار كان أكثر من نصف سكّان العالم محجورين داخل منازلهم بناء على إجراءات دولهم للحدّ من تفشي فيروس "كورونا". هذا أمرٌ غير مسبوق في تاريخ البشريّة، وهو إنقلاب طارئ ومفاجئ في حياة الناس عبر العالم. فبعدما كانت معظم حياة البشر خارج بيوتهم في الطرق وأماكن العمل والساحات العامة باتت مقتصرة اليوم على المنازل. فلكأن التوقّف شبه الكلّي لحركة التنقّل والعمل والتجمّع في العالم خلقت عالماً بديلاً على المستوى الاجتماعي لا يحتاج البشر فيه إلى لقاء بعضهم البعض، لا بل يتجنّبون اللقاء، وتوصيهم دولهم وتلزمهم كما الجهات الطبية بحفظ "مسافة اجتماعية" بين بعضهم البعض كي لا تنتقل عدوى الفيروس بينهم. يحصل ذلك والناس في العالم من أقصاه إلى أقصاه يجب أن يشعروا أكثر من أي وقت مضى أنّ مصيرهم واحد وأنّهم يواجهون التهديد نفسه وأنّهم تبعاً لذلك يحتاجون إلى بعضهم البعض على اختلاف إنتماءاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية.
هي إذاً لحظة تارخية فريدة، وأحد أوجه فرادتها أنّه لم يسبق أنّ طرحت البشريّة كافة الأسئلة نفسها؛ كيف يمكن أن نتجاوز هذا التهديد الصحي غير المسبوق كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس؟ ومتى سنتجاوزه وبأي تكلفة بشرية ومادية؟ وهل ستعود الحياة إلى ما كانت عليه قبلاً وكأن شيئاً لم يكن، أم أنّ "كوفيد-19" سيخلّف وراءه تغيّرات قِيَمية ويرتّب أولويات اجتماعية وسياسية - إقتصادية مختلفة؟
طبعاً لا يزال من المبكر التكهّن بمآلات هذه المحنة الإنسانية وما يمكن أن ينتج عنها من تبدلّات في سلوك الأفراد والمجتمعات وكذلك الدول. كما أنّه من الصَعب الإعتقاد أنّ هذه الأزمة العالمية ستترك آثاراً وأنماطاً جديدة ومتشابهة في العالم بأسره. إذ أنّ وحدة مصير البشرية في مواجهة الفيروس التاجي لا تعني أنّ تبعات هذه الأزمة ستكون واحدة بين الدول كلّها وداخل سائر المجتمعات. فالتفاوت الاقتصادي والإجتماعي والسياسي بين دول العالم سيحدّد حجم التحوّلات داخل كلّ دولة بعد انقضاء التهديد الصحّي، ما دامت القضايا التي تطرحها هذه الأزمة كالعولمة الإقتصادية ووتائر الإنتاج والإستهلاك وشبكات التوريد والمناخ لاسيّما الإنبعاثات الحرارية فضلاً عن أنظمة الرعاية الصحية وديموقراطيتها، كلّها قضايا تعني الدول الصناعية الكبرى بالدرجة الأولى، وإن كانت مترتّباتها تنعكس حكماً على الدول النامية والمتعثّرة، مثل لبنان.
لكن وبالرغم من الضبابية التي تلفّ المشهد العالمي بإزاء ملمّة "كوفيد- 19" فمن الممكن التوقّف عند بعض مظاهر هذه الأزمة. فلنأخذ مثلاً تبعات الحجر المنزلي لا على إقتصادات الدول والأسواق المالية وحسب بل أيضاً على المجتمعات والأفراد. فبقاء الناس في منازلهم لا يلغي الفوارق الاجتماعية بل على العكس يعزّزها ويخلق شكلاً آخراً للتفاوت الإجتماعي أشدّ جذرية ممّا هو في الأوقات العادية. فمن ناحية ليس هناك تساوِ في قدرة الناس على ملازمة منازلهم دون عمل، إذ أنّ العديد منهم يعتاشون من بيع قوّة عملهم، وبالتالي إذا ما خرجوا للعمل ضاق حالهم، بينما للآخرين قدرة أكبر على الصمود. وهذا التفاوت يضع الدول أمام تحدّي تأمين إمدادات غذائية للناس في بيوتهم وإلّا وقعت أزمات اجتماعية خطيرة. وهو ما ليس في مقدور الدول كلّها، فدولة "مفلسة" مثل لبنان كيف يمكنها تأمين حاجيات مواطنيها الفقراء وقد تصل نسبتهم بحسب البنك الدولي إلى الأربعين في المئة؟ في حين سارعت وسائل الاعلام إلى رفع شعار "خلّيك بالبيت" حثّاً للمواطنين على ملازمة منازلهم، لكنّها، كما الحكومة، لم تظهر، تزامناً، وعياً لمسألة الحماية الاجتماعية. وبالتالي حمل شعارها معنى "توتاليتارياً" إذ خلق صورة نمطية عن المجتمع وألغى أي فروقات بين المواطنين. من ناحية ثانية فإنّ البيوت نفسها هي عنوان تفاوت إجتماعي. فكم من الناس يسكنون منازل ضيّقة لا تكاد تسعهم نياماً، في حين يملك آخرون بيوتاً واسعة وأحياناً أكثر من منزل يستطيعون التنقل بينها. والحال هذه فإنّ خروج الناس إلى الأماكن العامة قد يتيح فرصاً لتقليص التفاوت الإجتماعي أكثر من بقائهم في المنازل.
وجه آخر من وجوه جائحة "كوفيد – 19" يتمثّل بإعلان الدول التي تعرّضت للوباء تدابير استثنائية وصولاً إلى إعلان حالة الطوارئ. وتفيد التجارب التاريخية، أنّه في ظّل تدابير كهذه، تبرز مخاوف حقيقية من إفراط الحكومة في استخدام السلطة، في ظلّ غياب أو إختلال عمل السلطات الرقابية. طبعاً هذا أمرٌ تختلف تبعاته بين دولة وأخرى باختلاف مستوى الأداء الديموقراطي في كلّ منها. لكن حتّى في الدول المصنّفة من كبريات الديموقراطيات في العالم كفرنسا وسويسرا، فإنّ أزمة "كورونا" دفعت النخب السياسية والصحافية إلى إعادة التفكير في الأداء الديموقراطي للنظام السياسي في وقت الأزمات، سواء لجهة ضمان عدم تجاوز الحكومة حدود سلطتها، أو لناحية توفير إمكانية مساءلتها والتأثير في قراراتها.
هذا نقاش أساسي في الديموقراطيات المصنفّة عريقة، أمّا في الدول التي تعاني إختلالات كبيرة في أدائها الديموقراطي، فإن الحكومة غالباً ما تستغل حالة الطوارئ لتتخذ قرارات غير شعبية يمكن أن يثير طرحها في الأوقات العادية غضب الشارع. وهذا أمرٌ يمكن الاستدلال عليه في أداء الحكومة اللبنانية التي حاولت تمرير قانون "الكابيتال كنترول" في عزّ الأزمة الصحية، في وقت كان اللبنانيون الذين يشكون الإجراءات المصرفية ويحتجون ضدّها محجورين في منازلهم وعاجزين بالتالي عن النزول إلى الشارع للتظاهر ضدّ الحكومة كما كان دأبهم منذ 17 تشرين الفائت.
كذلك أعادت جائحة "كوفيد – 19" إلى الواجهة قضية استخدام الحكومات للتكنولوجيا والذكاء الإصطناعي لمراقبة حركة مواطنيها ولقاءاتهم بغية التمكّن من تحديد خريطة انتشار الفيروس. وهذا أمر وإن كان مبرّراً في ظلّ الأزمة الصحية، ما دامت الأولوية القصوى للناس كما الدول كبح الوباء وحماية الأرواح، فهو يثير مخاوف حقيقة من استمرار هذه الإجراءات الرقابية، أو البعض منها، حتى بعد إنقضاء الأزمة، مع ما يعنيه ذلك من ضغط دائم على حرية المواطنين. وقد تصوّر الكاتب يوفال هراري في "فايننشال تايمز" إحتمالَ أن تعلّق الحكومات لاحقاً وبصورة دائمة سوارات بيومترية في أيدي مواطنيها تمكنّها من قياس حرارة أجسادهم طيلة الوقت. وهو ما يمثّل، برأيه، انتقالاً دراماتيكياً من المراقبة "فوق الجلد" إلى "تحت الجلد". فإذا كانت بعض الدول الكبرى قادرة اليوم أن تستخدم بيانات مستخدمي الإنترنت لتقدير أهوائهم السياسية وأفكارهم بغية التأثير في خيارتهم، فإنّ معرفة حرارة أجسادهم يمكن أن تتيح لها، مستقبلاً، تقدير انفعالاتهم عند سماع خطبة رئيس الدولة مثلاً. طبعاً، هذا مجرّد تصوّر لا يمكن تأكيد حصوله أقلّه على نطاق واسع في العالم، وخصوصاً في المديين القصير والمتوسّط، وإن كانت التوقّعات العلمية بظهور فيروسات جديدة تجعله تصوراً مُمكن الحدوث.
في المحصلة فإنّ فيروس "كورونا" وضع البشرية أمام تحدّيات جديدة وغير مسبوقة، يفترض أنّ تبدّل أولويات الأفراد كما الدول لتصبح الإهتمامات الصحّية والبيئية متقدّمة على مساعي التوسّع الاقتصادي والسياسي. لكن هذا التبدّل غير حتمي بالضرورة ويتوقّف على مدى وعي البشرية أنّ الاستمرار في أنماط الانتاج والاستهلاك نفسها ستكون كلفته عالية جداً وسيمثّل أخطاراً هائلة.
النهار - ايلي القصيفي