جريمة تفجير المرفأ في 4 آب من عام 2020 أنتجت ظروفاً مؤاتية لحرب داخلية. أيٌّ من الرسميّين والحزبيّين لم يعلن مسؤوليّته. لكن في المقابل كان التفجير إعلاناً أنّ في هذه الدولة من هو أقوى منها وقادر على تخزين النيترات.
كان النيترات المُخزّن صاحب وظيفتين:
- الأولى قتل اللبنانيين الذين سقطوا شهداء من دون أن يطلبوا هذه الشهادة أو يروموها.
- الثانية هي قتل السوريين عبر الكمّيات التي سُحبت لتُستخدم في البراميل المتفجّرة.
جريمة تفجير المرفأ في 4 آب من عام 2020 أنتجت ظروفاً مؤاتية لحرب داخلية. أيٌّ من الرسميّين والحزبيّين لم يعلن مسؤوليّته. لكن في المقابل كان التفجير إعلاناً أنّ في هذه الدولة من هو أقوى منها وقادر على تخزين النيترات
في الأحوال كلّها كانت جريمة التفجير إعلاناً فاضحاً أنّه ما عاد من دولة في لبنان. هذا كان معروفاً، لكنّه جاء على معنى أوضح بعد التفجير الذي أودى بمئات القتلى والجرحى، إضافة إلى تدمير آلاف الوحدات السكنيّة.
لكن ينبغي أوّلاً التوقّف عند نقاط خمس كانت الأساس في مسار التحقيق الذي أضاف إلى الغموض الذي لفّه غموضاً أشدّ قتامةً. وهذه النقاط هي:
- طبيعة الجريمة وإنكار وقائعها.
- تعاطي الرئيس نبيه برّي بعدما أحال إليه القاضي فادي صوّان التحقيق الأوّليّ.
- "قداسة" القاضي طارق البيطار.
- العدالة لأهالي الضحايا بما هي غاية وليست غرضاً.
- ومَن قتل المصوّر جو بجّاني.
1ـ طبيعة الجريمة وإنكار وقائعها ومسؤوليّة إسرائيل
الحاسم في موضوع الجريمة أنّها رهيبة. بشاعتها تتأتّى ممّا خلّفته من خسائر في الأرواح والممتلكات. لكنّ ما ليس طبيعياً فيها هو التيه اللبناني العامّ عمّا أعلنه الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب بعد أقلّ من ساعة على حدوث الانفجار وبالحرف الواحد: "استناداً إلى جنرالات الجيش الأميركي ومعلوماتي فإنّ التفجير قد جاء جرّاء هجوم عسكريّ".
أكثر من ذلك، فقد نشرت "هآرتس" ما يوحي بأنّ الجيش الإسرائيلي هو من فعل ذلك، ثمّ حذفت الخبر بعد عشر دقائق. يومها عقد وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق مؤتمراً صحافياً أعلن فيه ما يملكه من تقديرات بناءً على النتائج التي خلُص إليها بعد اتصالاتٍ أجراها عن حقيقة التفجير، ثمّ أطلّ الأمين العامّ للحزب ليتهم من وجّهوا أصابع الاتهام لاسرائيل بأنّ هدفهم الحقيقي هو إحراج حزبه ليردّ عليها. أعلن ذلك مع أنّه هو نفسه لا يترك حدثاً يضع البلد على حافة الانفجار إلا ويتّهم العدوّ الإسرائيلي بوقوفه وراءه. وللمصادفة السعيدة أنّ هذه هي المرّة الوحيدة التي لم يتّهم فيها الدولة العبرية بشيء.
2 ـ مسار القضيّة.. قضاء وأقدار
لم تكن هذه القضيّة لتأخذ مساراً أحال اللبنانيين كلّهم إلى الفوضى، لو أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي وافق على التحقيق الأوّلي الذي أنجزه القاضي فادي صوّان طالباً من رئاسة المجلس تولّي إحالة القضيّة إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب.
هذا الرفض جعل الأمور تأخذ مساراً آخر تداخلت فيه السياسة بالقضاء، وقُيّض النصر للأولى. حصل ذلك منذ التدخّل الفرنسي الاستعراضي بالقضيّة وامتناع سائر الدول عن تسليم الصور الفضائية لِما حصل وكيفية تفجير المرفأ. عليه دخلت القضيّة مسارات الأزقّة السياسية والقضائية، فأصبحت الجريمة الرهيبة قضاءً وأقداراً سترسمها يوميّات سياسية لبنانية مُتعبة ومحكومة بالسجالات والشحن. وما حصل في مسار التحقيق بدّد "هول" الجريمة تحت مسمّيات الفساد والإهمال والمسؤوليّات القصديّة، وعكسها غير القصديّة. لكن في الأحوال كلّها أظهر هشاشة البلد، كما هو على الدوام.
المسار الذي اشتقّه قاضي التحقيق فادي صوّان كان مساراً قضائياً بحتاً، إذ شرع في الاستجواب وادّعى على رئيس الحكومة حسان دياب والوزراء غازي زعيتر ويوسف فنيانوس وعلي حسن خليل.
الأسوأ كان دخول التحقيق مساراً هجيناً، إذ أفضى إلى إقصاء صوّان بدعوى اعتباره طرفاً، لا لشيء إلا لتعرّض منزله لخسائر ماليّة جرّاء التفجير، وأهمّها سقوط زجاج منزله، وهو "ما قد يجعله متضامناً" مع الضحايا في التحقيق.
3 ـ "قداسة" القاضي البيطار
إثر ذلك، كانت الوجهة السياسية التي لم يعترض عليها أحدٌ هي تعيين قاضي تحقيق بديل، فكان القرار بالإتيان بالقاضي طارق البيطار. بنى الأخير تقديراته الظنّية والقضائية تحت وطأة "ضغط عاطفي" أراده بشدّة، إذ حوّل مكتبه إلى منتدى إعلامي لضخّ تسريبات إعلامية صادرة عن "مقدّس" لا طعن في شرعية ما يقول، وإلى ديوانيّة لاستقبال أهالي الضحايا ووفود قضائية وسياسية أجنبية، أبرزها الوفد الفرنسي، وإطلاق الوعود.
بلغ الأمر بالقاضي البيطار في حديث إلى جريدة "العربي الجديد" التهديد بإنهاء الطبقة السياسية. وبدا واضحاً منذ ذلك الحين أنّ البيطار ينفّذ أجندة سياسية، خصوصاً على أبواب الانتخابات النيابية في 2022، التي كان داعموه من بلدان تمويل الـNGO’S يراهنون عليها "لقلب النظام" في لبنان.
مع هذا التصريح سقط القضاء وصعدت السياسة والأمزجة. راح يسرّب اتّهامات ضدّ هذا وذاك، فيما أهمل قيادة الجيش التي كان صعد إليها العماد جوزف عون وتولّاها حتّى ذاك الوقت لمدّة ثلاث سنوات ونصف. لا بل صعد إلى اليرزة، وكان اللقاء "دردشةً" أكثر منه جلسة استماع، علماً أنّ ما من أحد يمكنه أن يحرّك ساكناً في المرفأ من دون أذونات الجيش اللبناني.
صدم البيطار اللبنانيين عندما ادّعى على سياسيين آخرين مثل وزراء سابقين وحاليين، منهم علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس، ثمّ أضاف اسم المشنوق الذي ذهب إليه طالباً الاستماع إليه، فكان ردّ البيطار أنّه قد يفعل ذلك حين يكون وزير الداخلية الأسبق من دون حصانة، وهو ما كان أقرب إلى الاستحالة لأنّ مسألة نزع الحصانة تتطلّب موافقة ثلثَي مجلس النواب. ولاحقاً ادّعى على المدير العامّ للأمن العامّ اللواء عبّاس إبراهيم والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا.
أظهر كلّ ذلك أنّ سلوك البيطار سياسيّ وفيه الكثير من الأجندات المُحفّزة. وإذ كان يتّهم يمنة ويسرة في الإعلام وفي المطاعم وجلساته الخاصة، لكنّه لم يعلن يوماً مبرّراً قضائياً للادّعاء على هذا أو ذاك.
4 ـ العدالة لأهالي الشهداء
ما من موجوع ومقهور بسبب الجريمة بقدر أهالي ضحايا تفجير المرفأ. لكنّ القرارات والتسريبات الإعلامية لا تحقّق العدالة. كان المثال الأوضح في قضية توقيف الضبّاط الأربعة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. يومها هلّل اللبنانيون متفائلين بتحقيالعدالة، لكن ما لبث القضاء الدولي أن برّأهم، وعاد التحقيق إلى مربّعه الأوّل المسمّى "لعبة الأمم".
التلاعب بمشاعر أهالي الضحايا من هنا وهناك، كان يعني طردهم من الدولة إلى الفوضى الأخلاقية التي لا تتبصّر في آلامهم. وكان طرداً أيضاً لرأي عامّ عريض وقف إلى جانب حقّهم الإنساني والأخلاقي والقانوني. ضاعت وعود القاضي البيطار وأضاعت الحقيقة، وصار هو متّهماً تتقاذفه القضايا. في لحظة ما بدا أنّ هناك استحالة لإعادته إلى مهنيّته لولا الدفوع القانونية التي قُدّمت بوجهه وطلبات الردّ التي منعته من إكمال التحقيق لكلّ الأسباب المذكورة آنفاً.
5 ـ سلام للمصوّر جو بجّاني
الغريب في قضية تفجير المرفأ أنّ أحداً لم يتبصّر في اغتيال أحد مصوّري الجيش في المرفأ الراحل جو بجّاني الذي كان يملك أرشيفاً مهولاً عن المكان وشاغليه والداخلين إليه والخارجين منه. لقد تمّ قتله إثر جريمة المرفأ عبر جريمة "تكاد تكون من أنظف الجرائم وأكثرها إحكاماً".
لقد تمّ نزع الكاميرات عند مدخل بيته لاحقاً. وتمّت التعمية على القاتلَين اللذين انتظراه بالقرب من سيارته صباحاً ليتوجها بعد تنفيذ جريمتهما إلى منطقة عمليات تحت رقابة الجيش اللبناني، من دون أن يعودا من حيث أتيا.
تقول زوجته إنّ هاتفه الذي لم يكن يهدأ اختفى صوته بعد الجريمة، وإنّ كلّ ما تحوزه العائلة من رقائق إلكترونية تتضمّن أرشيف صوره قد انتُزع من المنزل واختفى.
لقد قضى الرجل غيلةً ولم يتوقّف أحدٌ عند ما حصل له والذنب الذي قُتل به. على كلٍّ هذه "بلاد القتل العاديّ".
الانقسام وبؤس النهايات
شكّلت الجريمة "تروما – صدمة" مسيحية لأنّ عصف الانفجار كانت وجهته مناطق سكناهم، وبدرجة أقلّ حيث تعيش غلبة إسلامية. لكنّ الحقّ أنّ التفجير أتى على لبنان كلّه، إذ للمرّة الأولى يصبح بلدٌ على البحر من دون مرفأ كان يفضي إلى كلّ العالم. وذلك في وقت أُقيم فيه قدّاس كان يعني في ما يعني أنّ الجريمة هي ضدّ المسيحيين، فيما واقع الحال الحقيقي هو أنّ التفجير كان ضدّ لبنان برمّته. وهذا التطييف للجريمة أضعف مصداقية الناطقين باسمها.
في اللحظات التي تلت التفجير كان البلد عرضةً لحرب أهلية تعيد سِيَراً مكرّرة عن مواضٍ بغيضة يعرفها اللبنانيون باختبار المحن وعبر الدم والقتل والتدمير. ما زاد من هذا الاحتمال كان سياق التحقيق الذي تبدّد بحجج واهية.
إذا ما استمرّ هذا المسار القضائي على حاله فهذا يعني أنّ لبنان لم ينتقل من مواضيه الأهلية، ويعني نكوصاً إلى ما قبل اتفاق الطائف، وبالمعنى الحرفيّ هو اختيار الحرب بدلاً من الدولة. ويعني أيضاً بوضوح فاقع أنّ "التفجير" سيلحق بكلّ جرائم "القتل السياسي"، وسيعني على الدوام للّبنانيين أنّ حقيقتهم هي المعادل للحرب والجحيم الذي لا يني يتكرّر، وليس من يتّعظ.
لبنان اليوم يعني اللادولة والخراب العميم.