لو أطّل السيّد حسن نصرالله في الذكرى العشرين لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في وسيلة إعلامية غير تابعة لحزب الله لربما كان حصل شيء من النقاش في هذه الذكرى مثلما تمنّى نصرالله نفسه، الذي عاب على اللبنانيين عدم مناقشة دلالاتها بينما الإسرائيليون يفعلون ذلك بقوّة. لكن هذا دأب حزب الله منذ زمن. فنوابه ووزراؤه قليلو الظهور الاعلامي وإذا ظهروا ففي وسائل إعلامية "موالية" في الغالب الأعمّ. أمّا أمينه العام فغالباً ما يلقي خطب متلفزة وأحياناً قليلة يظهر في مقابلات تلفزيونية يحاوره فيها "مُقرّبون".
هذا سلوك للحزب يعكس فهمه للسياسة والإعلام بوصفهما مجالاً منغلقاً للتعبئة لا مجالاً مفتوحاً للحوار. لكن انعكاسات هذا التصوّر لم تقتصر على الحزب بل شملت مجمل الحياة السياسية والإعلامية التي تراجعت حيويتها على نحو ملحوظ، بعدما انساقت مختلف القوى السياسية إلى منطق القانون الأرثوذكس الذي ضيّق هوامش اللعبة السياسية بجعله تركيز الأحزاب منصبّا على الصراع نفوذ داخل طوائفها، بينما حزب الله يخوض في القضايا الإستراتيجية، بدءاً من الردع مع إسرائيل وصولاً إلى طرد القوات الأميركية من العراق!
لقد وصل لبنان من جراء هذا المسار الذي توّج بتسوية العام 2016 إلى أسوأ أزمة إقتصادية ومالية في تاريخه بعدما بات نصف سكّانه بحسب البنك الدولي تحت خطّ الفقر. وبالرغم من ذلك فالقوى السياسية الرئيسية لم تجرِ أي مراجعة لانخراطها في هذا المسار لأنّها ببساطة شريكة فيه ولأنّه طريقها الوحيد الى السلطة على قاعدة المقايضة بين النفوذ السياسي والمناصب السياسية، أي النفوذ لحزب الله والمناصب لها. ومن خرج منها من السلطة فهو يراهن على الرجوع إليها ومن طريق هذه المقايضة أيضاَ.
كلّ ذلك على حساب مصلحة اللبنانيين التي تقتضي تحييد بلدهم عن محاور الصراع في المنطقة بينما حزب الله يضعه في صلبها ويوجّه السياسة الخارجية للبنان بحسب مصلحته الإقليمية، غير آبه بتداعيات سياساته على الإقتصاد اللبناني. وقد أقرّ رئيس الجمهورية في تشرين الأول 2019 أنّ لبنان يقع تحت الحصار المالي والعقوبات الأميركية على حزب الله. أي أنّ اللبنانيين يدفعون أثمان استخدام إيران لورقة لبنان في المواجهة/المفاوضة مع الولايات المتحدة الأميركية. أمّا الأحزاب، خصوصاً تلك التي كانت على خصومة مع الحزب، تشيح بوجهها عن هذا الواقع وتركّز في مقاربتها للأزمة على سردية مكافحة الفساد التي باتت على كلّ لسان. وحتى عندما تطرح مسألة التهريب الحدودي فهي تصوّره كما لو أنّ المسؤولين عنه هم أبناء القرى الحدودية. لا بل أن بعضها يدعو حزب الله إلى مساعدة الدولة في ضبط الحدود. وهو موقف إمّا ساذج وإما منافق!
على هذا المنوال تمكّن حزب الله بعد مرور عشرين عاماً على تحرير الجنوب من إحكام قبضته على لبنان. فرئيس الجمهورية حليفه، والغالبية البرلمانية معقودة له، والحكومة طيّعة بين يديه تنفّذ ما يطلبه منها وبسرعة قياسية. لكن وفي المقابل فإنّ لبنان الذي يحكمه حزب الله تعشعشت فيه المحاصصة الطائفية بشكل غير مسبوق وعاد الحديث فيه عن الفيديرالية الجغرافية وإلغاء الصيغة كما لو كنّا في زمن الحرب الأهلية. كما بات هذا اللبنان منهاراً اقتصادياً ومالياً ينتظر دعماً خارجياً من الدول الغربية والعربية التي يناصبها الحزب العداء. والمفارقة أنّه في الوقت الذي تفاوض فيه الحكومة اللبنانية صندوق النقد الدولي يدعوها نصرالله إلى التوجّه شرقاً أي إلى الصين التي تضعها الإدارة الأميركية في رأس لائحة أعدائها الاستراتيجيين.
لقد أشرّ المسار السياسي الذي سلكه حزب الله منذ العام 2000 إلى المصير الذي سيبلغه لبنان. إذ أنّ تخوينه غالبية اللبنانيين لمجرّد مطالبتهم برفع الوصاية السورية عن بلدهم كان الدليل القاطع على أنّه غير مستعدّ لتثمير إنجاز التحرير في سياق داخلي لإعادة بناء الحد الأدنى من الإجماعات الوطنية التي تسمح للبنان، وقد تحرّر من الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية، أن يسلك طريقاً مختلفة فلا يبقى أسير الصراعات الإقليمية والدولية مع ما تستتبعه من تبعات لا يقوى على تحمّلها؛ وما الدليل سوى أوضاعه الراهنة!!
ايلي القصيفي