قبل سفره إلى أوروبا في جولته الخارجية الأولى بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة كتب جو بايدن في "واشنطن بوست": أميركا ستدافع عن قيم الديموقراطية التي تعدّ جزءاً من مصالحها". كذلك كتب في تغريدة على موقع "تويتر في 8 حزيران: "تقوية وتجديد إلتزامات أميركا تجاه حلفائها وبرهنة أنّ الديموقراطيات تستطيع مواجهة تحديات العصر الجديد". وهو ما يمكن اعتباره ملخصّ أهدافه من جولته الأوروبية التي اختتمها بلقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين في فيللا "لا غراند" بجنيف في 16 حزيران.
من الواضح أنّ دفاع أميركا عن القيم الديموقراطية يشكّل العنوان العريض لسياسة بايدن الخارجية. وهو عنوانٌ سيحدّد مقاربات وسلوك الإدارة الديموقراطية إزاء القضايا والأزمات الدولية، ولاسيما تلك التي تشكّل عنوان منافسة أو مواجهة بين الولايات المتحدة وخصميها البارزين على الساحة الدولية أي روسيا والصين. مع الأخذ في الاعتبار أنّ أولوية واشنطن القصوى الآن هي احتواء التوسّع الاقتصادي الصيني ومنعه من التحوّل إلى نفوذ سياسي وعسكري على الساحة الدولية. وهذا الأمر كان العنوان الأبرز بين العناوين غير المعلنة لقمّة بايدن – بوتين، إذ تسعى الإدارة الأميركية لبناء جدار لوقف التمدّد الصيني، ولذلك فهي تحاول ترك الباب مفتوحاً أمام التعاون مع موسكو لكي لا ترتمي في حضن الصين. مع العلم أنّ ثمّة رأي في أوساط الإدارة الأميركية يقول إنّه لا يجب أن تكون سياسة بايدن تجاه روسيا مشتقّة من سياسته تجاه الصين.
في الواقع فإنّ ترويج الإدارة الأميركية لفكرة أنّ المواجهة بين الديموقراطيات والأنظمة الاستبدادية ستكون التحدّي الأبرز في القرن الواحد والعشرين، تستعيد بشكل واضح أدبيات الحرب الباردة التي دارت رحاها عقب الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفياتي من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية. وبالرغم من تأكيد الجانبين أنّهما ليسا في وارد تجديد الحرب الباردة، فإنّ نظرة الإدارة الأميركية لتحديات القرن الحالي تجعل ظلال القرن العشرين حاضرة بقوّة على الساحة الدولية. ذلك مع الأخذ في الاعتبار أنّ الحديث عن الحرب الباردة ولو في إطار نفي تجدّدها يلقى وقعاً إيجابياً لدى موسكو التي تسعى إلى نيل اعتراف أميركي بأن الحوار معها هو من الندّ إلى الندّ، وبأنّها هي المحاور الأوروبي الرئيس للأوروبيين. ولذلك فإنّ قول بايدن إنّ روسيا والولايات المتحدة "قوتان عظيمتان" حقّق غاية القمة بالنسبة إلى بوتين بعدما كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قد وصف روسيا بعد ضمّها جزيرة القرم في العام 2014 بأنّها دولة إقليمية. حتّى أنّ مجرّد حصول القمّة كان بمثابة نصر للرئيس الروسي، أياً تكن نتائجها العملية وقد استبق الطرفان انعقادها بالتقليل من أهميتها.
مع العلم أنّه يمكن القول إنّ ملف التسلّح النووي الذي كان الرئيس الأميركي رونالد ريغن والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف قد اتفقا في قمّة جنيف 1985 على التعاون بشأنه، قد استبدل حالياً بملف الحرب الالكترونية التي تدور رحاها في الظلّ بين البلدين الآن.
والحال يمكن تلخيص الحصيلة العملية المتواضعة للقمة بثلاث عناوين: عودة سفيري كلا البلدين إلى كل من موسكو وواشنطن، بدء المفاوضات حول الحرب الإلكترونية وإنشاء فرق عمل معنية بها، كما المفاوضات بشأن "الاستقرار الاستراتيجي"، وهو التعبير الذي كانت موسكو ضمّنته في بيانها للإعلان عن القمّة، ودائماً في محاولة منها لرفع مكانتها على الساحة الدولية.
إضافة إلى هذه القضايا الثلاث تمّت الإشارة في وسائل الإعلام الغربية والأميركية إلى أنّه تمّ البحث خلال القمّة في العديد من المجالات التي يعتقد بايدن أنه يمكن أن يعمل بانسجام مع بوتين بشأنها، بما في ذلك التعاون بشأن الأسلحة النووية وتغيّر المناخ والمصلحة المشتركة في تجديد الإتفاق النووي الإيراني. كذلك تمّ التطرّق لملف المنطقة القطبية الشمالية حيث تدور معركة نفوذ بعيدة عن الكاميرات بين البلدين. وفي السياق ذكرت موقع إذاعة وتلفزيون سويسرا RTS)) أنّ بوتين أكّد أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها لا يجب أن يقلقوا بشأن العسكرة الروسية لهذه المنطقة. كما تمّ تناول موضوع أفغنستان التي تنوي أميركا سحب جنودها منها في 11 أيلول المقبل، في وقت قد يفتح انسحابها الباب أمام لاعبين جُدد في هذا البلد وفي مقدمتهم الصين التي تحاول مغازلة حركة "طالبان" بواسطة باكستان.
إلى ذلك تطرّق كلا الرئيسين في مؤتمرهما الصحافيين المنفصلين عقب القمّة للملف السوري. وفي حين كان بوتين شديد التحفظ بخصوصه، أشار بايدن إلى وعد نظيره الروسي له بالتعاون في هذا الملف. وسيكون أوّل اختبار عملي لهذا التعاون في 11 تموز المقبل تاريخ انتهاء صلاحية القرار الأممي المتعلق بايصال مساعدات إلى المناطق غير الخاضعة لسلطة الأسد عبر معبر "باب الهوى". وتجدر الإشارة إلى أنّ روسيا مارست ضغوطاً لإيصال المساعدات عبر النظام السوري في سعيها الدؤوب للاستحصال له على اعتراف دوليّ.
وفي السياق يشكّل الملف السوري اختباراً رئيساً لكل من موسكو وواشنطن. فهل بوتين مستعد لعقد صفقة مع الولايات المتحدة في سوريا تكون مقدّمة لمزيد من التعاون بين البلدين؟ وهل بايدن مستعدّ لجعل القضية السورية أولية والضغط على روسيا بشأنها؟ لكن فوق ذلك فإنّ الملف السوري سيشكّل اختباراً لإدارة بايدن لجهة حدود ترجمتها لمبدأ الدفاع عن القيم الديموقراطية على أرض الواقع في سوريا.
وما ينطبق على سوريا لهذه الناحية ينطبق على إيران. إذ ستكون الكيفية التي ستتعاطى بها واشنطن مع الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي الذي يقع تحت العقوبات الأميركية لاتهامه بانتهاك حقوق الإنسان، اختباراً أيضاً لتركيز بايدن على الدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطية. كذلك فإنّ لبنان الذي يقبع تحت سلطة حزب مسلّح يضرب عرض الحائط كل القيم الجمهورية والديموقراطية في النظام اللبناني، سيكون ساحة اختبار لسياسة الإدارة الأميركية الجديدة. وفي المحصلّة فإن السؤال المشترك بين كل هذه البلدان هو إلى أي مدى ستوائم التسويات والاتفاقات الدولية والإقليمية بشأن كل من سوريا وإيران ولبنان بين الدفاع عن القيم الديموقراطية وبين مقتضيات "الإستقرار الاستراتيجي"؟