لا يفترض بحزب الله أن يغضب من اتهام شرائح من اللبنانيين له بالتسبّب بتفاقم الإنهيار ما دامت أساليبه لنفي هذه التهمة تدينه. فمنذ إعلانه وحركة أمل التعليق المشروط لمقاطعتهما جلسات مجلس الوزراء بعد تعطيلها لنحو ثلاثة أشهر، ينظّم الحزب حملة إعلامية لتصوير عودته إلى حضور هذه الجلسات على أنّها تضحية في سبيل تحسين الأوضاع المتردية للبنانيين. وكأنّ أوضاعهم كانت ممتازة منذ ثلاثة أشهر ولذلك لا بأس إذا عطلّ الحزب والحركة مجلس الوزراء بعد بقاء لبنان 13 شهراً من دون حكومة بالرغم من الإنهيار الكارثي.
فلولا يقين الحزب بأنّ تهمة التعطيل ومفاقمة الأزمة مثبتة عليه من قبل غالبية اللبنانيين في أشدّ أوقاتهم صعوبة لما كان نظّم حملة إعلامية ممنهجة هدفها القول إن عودته لحضور جلسات الحكومة جاءت إحساساً منه بظروفهم. أي أنّه يريد غسل يديه من التسبّب في تردّي حياة اللبنانيين بسبب تعطيل الحكومة من خلال إظهار تعليق هذا التعطيل كما لو أنّه منّة منه على اللبنانيين ورأفة بحالهم!!
لكن هذا أسلوب خبره اللبنانيون في حزب الله الذي يمتهن البروبغندا ويسخّر كلّ الأدوات السياسيّة والإعلامية لتبرير أجندته اللبنانية – الإقليمية أيّاً تكن أثمانها على الشعب اللبناني.
غير أن عودة الحزب إلى حضور الجلسات الحكومية تؤذن بدخوله مرحلة سياسية جديدة مع إقتراب موعد الإنتخابات النيابية في 15 أيار المقبل، والتي في حال إجرائها ستكون نتائجها حاسمة في اختيار رئيس الجمهورية المقبل الذي يحرص الحزب لضمان ولائه مثلما ضمن ولاء الرئيسين إميل لحود وميشال عون وربّما أكثر منهما.
لذلك ليس تنظيم اللقاء "الإعلامي- العائلي" لرئيس المجلس التنفيذي في حزب الله هاشم صفي الدين محض صدفة وإنما هو لقاء مدروس ومحضّر بعناية فائقة من قبل قيادة الحزب لأنّه يفتتح تلك المرحلة الجديدة ويضع عناوينها السياسية الرئيسية.
وبالمناسبة فإنّ سياسات الحزب الإعلامية لجهة امتناعه عن الدخول في اللعبة الإعلامية الديموقراطية تنطوي على استفزاز صريح للشعب اللبناني وتنمّ عن المنحى الإستعلائي في سلوك حزب. فنواب الحزب ووزراؤه وقياداته لا يظهرون في مقابلات إعلامية إلّا نادراً وبحسب الظرف وفي محطّات موالية على الأغلب، بينما شرط الدخول في اللعبة السياسية الديموقراطية هو القبول باللعبة الإعلامية الديموقراطية. فمن حقّ الشعب اللبناني أن يسائِل "نوّاب الأمّة" عبر وسائل الإعلام، وهو ما يتطلّب أن يكون الإعلاميون ديموقراطيين وواعين لأولويات الشعب ومصالحه.
لكن كيف يمكن توقّع قبول الحزب باللعبة الإعلامية الديموقراطية إذا كان لا يقبل باللعبة السياسية الديموقراطية. فها هو صفيّ الدين يستبق إجراء الإنتخابات النيابية بالقول أّنّها "لا تعني تغييراً للوقائع القائمة".
وهذه ليست المرّة الأولى التي يصدر فيها كلام مماثل من قيادي في حزب الله، فقد سبق كلّ من النائب محمد رعد والشيخ نعيم قاسم صفيّ الدين إلى التشكيك في حدوث تغيير في الخريطة السياسية للبرلمان عبر الانتخابات المقبلة.
فعندما يصرّح قياديون في حزب يعلن بنفسه أنّ لديه مئة ألف مقاتل وآلاف الصواريخ أنّ "التهويل بأن الانتخابات آخر الدنيا وستفتح البلد على مسار جديد واكثرية جديدة، هو وَهم وسراب يعيشه البعض"، فإنّه لا يمكن فهم مثل هذه التصريحات إلّا بوصفها تهديداً للعملية الإنتخابية في حال استشعر الحزب أنّه لن يحوز وحلفاؤه على الغالبية النيابية.
لكن الحزب يبقي الباب مفتوحاً أمام "تسهيل" العملية الانتخابية إذ يستبق حصول أي تغيير فيها باستحضار معزوفة التوافق "الذي يبقى المرجع الحاسم على أي جواب سياسي كبير والسعي اليه"، كما قال صفيّ الدين، مضيفاً أنّ "التوافق هو هدف حزب الله، ويجب أن يكون هدف الآخرين مهما كان صعباً عليهم".
ولا داعِ للتذكير أنّ التوافقية كما يفهمها حزب الله وكما طبّقها منذ اتفاق الدوحة تقوم على مبدأ "ما لي هو لي وما لك هو لي ولك". أي أنّ هذه التوافقية هي تورية لفظي لعملية فرض الوقائع السياسية بقوّة موازين القوى أي بقوّة السلاح، وهو ما يفرغ أي استحقاقي إنتخابي من مضمونه الديموقراطي الفعلي.
لكن المسألة هنا لا تقتصر على الإستحقاقات الإنتخابية إذ يبدو أنّ الترجمات الفعلية للتوافقية التي يبشّر بها الحزب للمرحلة المقبلة قد بدأت داخل مجلس الوزراء من خلال فرض الثنائي الشيعي شروطاً مسبقة على جدول أعمال جلساته وإلّا فإنّه يقاطعها، وذلك في مخالفة جديدة وصريحة للدستور الذي يحصر وضع هذا الجدول برئيس الحكومة.
ونعمَ هذه التوافقية وهؤلاء التوافقيين!