ناضل الوطنيون اللبنانيون منذ ما قبل انهيار السلطنة العثمانية إلى إنشاء كيان لبناني محّدد الحدود. ففي أوج الموجة القومية العربية الأولى مع ظهور الفكرة القومية العربية في مطلع القرن الماضي وهؤلاء الوطنيون يقابلون هذه الفكرة بعرض تصوّرهم للبنان كوطن ذي حدود تاريخية. ثمّ مع انتهاء الحرب العالمية الأولى ومحاولة الملك فيصل بن الشريف حسين اقامة الدولة العربية في حمأة الصراع الدولي على وراثة "الرجل المريض" استطاع هؤلاء الوطنيون بقيادة البطريركية المارونية وفي لحظة دولية مؤاتية الحصول على هذا الوطن اللبناني، أي أنّهم نجحوا في الحصول على اعتراف دولي بوطنهم اللبناني.
لذلك فإنّ مسألة الحدود اللبنانية هي مسألة سياسية كيانية بامتياز لا بل هي جوهر الكيان اللبناني، فالكيان اللبناني هو حدوده أولّاً. والواقع أن الصراع على الحدود اللبنانية لم يسقط مع انشاء الكيان وانتفاء حلم الدولة العربية بعد معركة ميسلون، والتي تبعها تدريجاً اعتراف من المسلمين اللبنانيين بالحدود اللبنانية وبالتالي بالوطن اللبناني.
فالصراع على الحدود استمر مع الجمهورية السورية ولاسيّما بعد استلام حزب البعث العربي الإشتراكي ذي العقيدة القومية العربية الحكم في دمشق، فأخذ التشكيك السوري بالكيان اللبناني وحدوده بعداً أيديولوجياً ما يزال مستمراً حتّى اليوم. وحتّى بعد اقامة علاقات ديبلوماسية بين لبنان وسوريا في العام 2008 بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 1680، فإنّ سوريا ما تزال ترفض ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، بالرغم من أنّ جلسات الحوار الوطني التي أدراها الرئيس نبيه بري في العام 2006 كانت أقرّت موافقة الأفرقاء اللبنانيين على ترسيم هذه الحدود، وإن كان السيّد حسن نصرالله قد طلب استخدام تعبير تحديد الحدود لا ترسيمها في محاولة واضحة للالتفاف على آلية الترسيم.
وبالأمس القريب اعتدى النظام في سوريا على المنطقة الإقتصادية البحرية في الشمال اللبناني مواصلاً الاستخفاف بالحدود اللبنانية وذلك من دون أن بنبس حلفاؤه في لبنان ببنت شفة، وحتّى العهد الذي يصوّر نفسه سيادياً حتّى النخاع تعامل مع الخرق السوري كما لو أنّ حرس الحدود السوري احتجز غنمة لراع لبناني على الحدود الشمالية.
وأمّا الحزب فهو يعتبر الحدود اللبنانية - السورية حدوداً وهمية أقامها الإستعمار وبالتالي فإن عدم اعتراف نظام دمشق بها إنما هو ضحدٌ لموروثات الاستعمار. لكن الأهمّ أنّ الحزب يعبُرُ الحدود بين لبنان وسوريا والعراق وكأنها غير موجودة أصلاً، لا بل إنّ الهدف هو اسقاط هذه الحدود إذ يشكّل هذا الإسقاط حجر الزاوية في استراتيجية طهران لتوسيع نفوذها في المنطقة عبر نقل السلاح والمقاتلين بين هذه الدول المنهارة.
ولذلك فإنّ ضبط الحدود اللبنانية السورية ليس مسألة تقنية كما يُروّج له بل هو مسألة سياسيّة أصلاً. إذ أنّ ضبط هذه الحدود أو عدمه يحدّدان الوجهة الإستراتيجية للبنان، فإمّا أن يكون جزءاً من المحور الإيراني في المنطقة أو يكون دولة سيدّة خارج صراع المحاور، وهو ما يدعو إليه البطريرك بشارة الراعي بمطالبته بحياد لبنان وتحييده عن هذا الصراع.
ولعلّ ضبط الحدود اللبنانية مع سوريا بدءاً بترسيمها بموجب القرار الدولي الرقم 1680، هو الركيزة الأساسية لهذين الحياد والتحييد. كما أن ترسيم تلك الحدود ضرورة دستورية للبنان إذ تنصّ مقدمّة الدستور أنّ "لبنان وطن سيّد حرّ مستقلّ، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحداً أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني والمعترف بها دولياً". وهذا البند ورد في وثيقة الوفاق الوطني وقد أضيف إلى الدستور بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990.
بالتالي فإنّ ترسيم الحدود اللبنانية شرطٌ شارط لنهائية الكيان إذ من دونه لا تتحقّق فعلاً نهائية الكيان هذه. وبحسب الباحث عصام خليفة فإنّ الحدود الجنوبية محدّدة بموجب خط "بوليه – نيوكامب" (خط اتفاق الهدنة في 1949هو خط الحدود الدولية)، وإسرائيل تعتدي على هذا الخط في 13 نقطة يجب على لبنان المطالبة بحقّه فيها. أمّا مسألة الحدود مع سوريا فهي أحد عناوين الغلبة التي يمارسها الحزب في الداخل اللبناني، ولذلك فإنّ ترسيم تلك الحدود يراد له أن يطوى. حتّى أنّ نقل الديبلوماسي الأميركي فريدريك هوف عن بشار الأسد قوله إنّ مزارع شبعا سورية لم يثر أي حفيظة لدى الحزب وحلفائه الذين يقولون أن تلك المزارع لبنانية ولذلك يجب الاحتفاظ بالسلاح لتحريرها!
لذلك كلّه فإنّ مسألة الحدود اللبنانية وفي اتجاهاتها كلّها هي مسألة كيانية وطنية التفريط بها هو تفريط بلبنان. خصوصاً أنّ عمليات التهريب عبر تلك الحدود بدأت تمسّ جوهرياً بمصالح لبنان واللبنانيين مع العرب والعالم، وقد حوّلت لبنان دولة مارقة تسرح فيها العصابات وتمرح!